ما جرى في لبنان منذ اغتيال رئيس وزراء لبنان الأسبق رفيق الحريري وما زال يجري حتى اليوم يثير تساؤلات مشروعة حول خلفيات المحاولات الحثيثة لبعض أطراف المعارضة للإساءة للعلاقات اللبنانية السورية ورفعها الى حالة من التوتر خلافا لمصلحة الشعبين والبلدين.
ومن الصعب فهم ما يجري في الساحة اللبنانية بتجنب أو إغفال التاريخ المعاصر للأحداث التي شهدها لبنان منذ عام 1975 أي منذ الحرب الأهلية وحتى الاجتياح الاسرائىلي للبنان عام ,1982 ووصول قوات الغزو الإسرائيلية الي العاصمة بيروت فالحرب الأهلية كادت تقود لبنان الي كارثة بشرية ووطنية, كان من الممكن أن تؤدي الي وضع لبنان تحت الحماية والوصاية الإسرائيلية والأميركية.
وجاء دخول القوات السورية بناء علي طلب رسمي وشعبي لبناني لإنقاذ لبنان من الدمار الشامل ووضع حد للقتل المتفشي والذي كان يقتل فيه المواطن علي أساس الهوية التي يحملها, ورغم المحاذير والمخاوف من دخول لبنان فإن واجب الأخوة تجاه الشعب اللبناني وانقاذه من براثن الحرب الأهلية واستجابة لصوت الاستغاثة, هو الذي أملي علي سورية تقديم المساعدات العاجلة للشعب اللبناني, واستطاعت سورية بالتعاون مع القوي الوطنية اللبنانية إنهاء الحرب الأهلية, وساهم ذلك في تعميق العلاقات والوحدة بين البلدين الشقيقين التي امتزجت بالدم دفاعا عن حريته واستقلاله, وتجلي ذلك خلال الاجتياح الاسرائيلي للبنان وقدم الجنود السوريون دمهم من أجل دحر العدوان واستشهد الآلاف من أفراد هذا الجيش الأبي ثمنا لحرية وسيادة لبنان, وعقب دحر اسرائيل من بيروت ظهرت المقاومة الوطنية اللبنانية الباسلة وحزب الله الذي شكل جوهر المقاومة في الجنوب اللبناني وبفضل تلاحم المقاومة والجيش السوري وجدت اسرائيل نفسها مرغمة علي الانسحاب من الجنوب دون أي مكاسب سياسية كانت اسرائيل تخطط لفرضها علي لبنان, وبعد هزيمة اسرائيل في الجنوب وتحريره عام 2000 بدأت اسرائيل وحليفها الاستراتيجي الولايات المتحدة يحيكان المؤامرات لضرب علاقات لبنان وسورية وتخريبها بأي ثمن أملا في تجريد لبنان من الدعم السوري والاستفراد به وضرب المقاومة اللبنانية وتجريدها من سلاحها, بهدف وضع لبنان في دائرة الهيمنة الاسرائيلية الأميركية وبما أنهما فشلا بتحقيق ذلك عن طريق القوة كان لا بد من البحث عن خيارات وطرق أخري للوصول الي هذا الهدف.
وبدأت أميركا واسرائيل مع بعض الأطراف تحيك المؤامرات وتفعيل الأزمات ضد الوجود السوري في لبنان بالاتفاق مع بعض أقطاب المعارضة اللبنانية, وجري تأزيم الوضع مع اقتراب نهاية ولاية الرئيس اللبناني إميل لحود مترافقا بالضغط علي سورية واتخاذ ذرائع متعددة أبرزها أن الوجود السوري دعم للمنظمات الارهابية المعادية لاسرائيل والمقصود قوي المقاومة الوطنية اللبنانية والفلسطينية.
وفي إطار محاولاتها لإضعاف حالة الممانعة السورية ورفضها للمشاريع الأميركية الاسرائيلية المرسومة للمنطقة, استغلت واشنطن وباريس والمعارضة التمديد الجزئي للرئيس إميل لحود لبدء هجومها الواسع علي سورية ووجودها في لبنان كون هذا الوجود كان العائق الدائم لعقد اتفاقية منفردة بين اسرائيل ولبنان علي شاكلة اتفاقية 17 أيار سيئة الصيت والذكر.
وكان القرار رقم 1559 جاهزا قبل التمديد وقد نشرت بعض الصحف الغربية عنه في حزيران 2004 وهكذا جري استغلال التمديد ذريعة لنقل مسألة الوجود السوري العسكري إلي مركز الاهتمام والصراع, وبدأ الهجوم المرتب سلفا وكأن كل عناصر هذا الهجوم كانت مهيأة وبانتظار شرارة البدء, وتبنت بعض أوساط المعارضة اللبنانية شعارات كانت ترفعها اسرائيل وواشنطن وباريس مدعية بأن القوات السورية قوة وصاية, قوة احتلال, وانقسم الشارع اللبناني حول الوجود السوري, وعندما لاحت في الأفق عوامل ضعف المعارضة وضعف الذرائع الأميركية الفرنسية والاسرائيلية, كان لا بد من إحداث صدمة تعيد ترتيب اصطفاف القوي لمصلحة أميركا واسرائيل وبعض أطراف المعارضة التي لديها مشروعها المشبوه المتفق في محتواه مع البرنامج الأميركي المرسوم للمنطقة ككل والذي اطلق عليه (مشروع الشرق الأوسط الكبير), وإحداث الصدمة هدفه توسيع حجم المعارضة وتعزيز مواقعها في الشارع اللبناني, ولا سيما بعد موافقة الرئيس المغدور رفيق الحريري علي قرار التمديد للرئيس لحود, ومع اشتداد الضغوط علي سورية جاءت عملية اغتيال رفيق الحريري لتحدث الصدمة المطلوبة أميركيا واسرائيليا وتغيير قواعد اللعبة في الساحة اللبنانية لمصلحة هذه القوي مجتمعة, واندفعت المعارضة بشكل مفتعل ومخطط له لتجييش الشارع ضد سورية وهذا ما كان يقصده مرتكبو جريمة اغتيال الحريري, ولم تنتظر المعارضة لحظة واحدة فوجهت الاتهام لسورية وللسلطة اللبنانية دون أي تحقيق بالجريمة أو الكشف عن ملابساتها أو أي أدلة ملموسة, علما أن سورية والسلطة اللبنانية هما الطرفان الأكثر تضررا من عملية الاغتيال والتسرع في توجيه الاتهام دون أي أدلة كان يشير الي أن مرتكبي هذه الجريمة يعرفون مسبقا أن اغتيال شخصية الحريري سيدفع الوضع في لبنان الي حالة الاضطراب والفوضي.
ولكنهم لم يأخذوا بعين الاعتبار أن الشعب اللبناني سيدرك عاجلا أم آجلا كيف استهدفته أساليب التضليل الإعلامي وتشويه الحقائق علي خلفية استغلال بعض الأخطاء التي وقعت من قبل بعض الأشخاص, علما أن هذه الأخطاء والممارسات كان أبرز ممثليها العديد من بين أولئك الذين يتحدثون عنها من أواسط المعارضة, وافتضحت هذه الأساليب بعد التقرير الذي أصدرته لجنة تقصي الحقائق التي وصفتها بعض الصحف وبعض المراقبين بأنها لجنة تقصي البحث عن ذرائع لتوجيه الاتهامات دون أي دليل مادي وتحويل تقرير اللجنة عمليا الي تقرير وصفي منحاز لجانب الشعارات وسياسة المعارضة رغم أنها لم تتمكن في الجوانب التقنية من تجنب الحديث عن مسائل مهمة ليست في مصلحة المعارضة وافتراضاتها المسبقة, وبما أن اللجنة لم تجد أي أدلة ملموسة تتوافق مع رغبة واشنطن واسرائيل وباريس باتهام سورية فإنها سمحت لنفسها تجاوزا أن تتحدث عن الأسباب السياسية وتتهم السلطة اللبنانية بأنها غير قادرة وليس لديها الرغبة ولا الالتزام بالكشف عن الحقيقة, علما أن رئيس اللجنة شكر الرئيس لحود علي تعاونه مع عمل اللجنة لإنجاحها, ويدل ذلك علي أن الجانب السياسي في التقرير كان معدا سلفا وبالاتفاق المسبق, وربما لم تذكر اللجنة جميع الحقائق التي عرفتها لكي لا تورط مرتكبي الجريمة الفعليين وأصحاب المصلحة الحقيقية في توتير الوضع في لبنان, ولا أحد يعرف هل ستكون اللجنة الدولية المكلفة بالتحقيق في اغتيال رفيق الحريري والتي شارفت علي إنهاء أعمالها موضوعية في التقرير الذي ستقدمه للأمين العام للأمم المتحدة, أم سيكون نسخة مشابهة لتقرير لجنة تقصي الحقائق? وإذا ما اكتشفت اللجنة أن المجرمين الحقيقيين هم أولئك الذين يضمرون الشر للبنان وشعبه ولسورية ولشعبها هل ستتجرأ علي قول الحقيقة أم ستجد الصياغات الهلامية والسياسية المناسبة لزرع الشكوك حول من لم يكن له أي مصلحة في اغتيال الحريري?! أليس من المدهش أن الشعارات التي رفعتها المعارضة الحرية والسيادة والاستقلال لم ترفع ولا مرة واحدة في وجه اسرائيل وأميركا بل ترفع وبشكل شبه يومي ومن خلال الشاشات المملوكة من قبل من استخدم المال السياسي في الانتخابات النيابية ومن قبل بعض الاعلاميين الذين باعوا أقلامهم وذممهم وضمائرهم لسلطان المال السياسي بوجه من أنقذ لبنان من حالة القتل علي الهوية وأعاد له الأمن والاستقرار والاستقلال الوطني?!.
وهذا التيار المستقوي بالخارج يوجه هجومه الرئيسي علي مرتكزات الاقتصاد الحكومي اللبناني أملا في خصخصته وفتح لبنان علي مصراعيه أمام الرساميل الأميركية وربما الاسرائيلية وهذا ما تسعي إليه اليوم القوي التي تطالب بالعفو عن مرتكبي الجرائم بحق لبنان وشعبه ممن تعاونوا مع العدو الصهيوني, وتطالب بالعفو عن جميع الذين أججوا الحرب الطائفية وقتلوا الأبرياء بينما تحاول استبعاد كل وطني عن المواقع التي يشغلها, ولكن السؤال هل سيتمكن أولئك من تضليل الجماهير الشعبية لتسويق برنامجهم المدعوم أميركيا واسرائيليا, الثورات المخملية والمتعددة الألوان التي شهدتها بعض البلدان وأبهرت قسما من جماهيرها, سرعان ما اصطدمت تلك الجماهير بخيبات أمل لأن هذه الحركات أو مخططاتها لم تجلب سوي الكوارث والإملاق والفقر للشعوب, وكل ذلك يجري تحت شعارات تضليلية منافقة (الديمقراطية) دون التمعن في أي ديمقراطية يراد تصديرها لهذه البلدان وأهدافها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية, هل هي الديمقراطية التي تأتي بالحرية والرخاء للشعوب أم بدفع الدول الارتماء في أحضان أميركا ومن يريد الديمقراطية الحقة لا يرفع شعارات (الحرية والسيادة والاستقلال) ويطبق عكسها ويبدو أن بعض أقطاب المعارضة في لبنان ادركت هذه الحقائق فبدأت تغرد خارج السرب الذي زجت فيه.