وفشل في ترتيب نفسه لتحديد موقف علمي تجاه ما يجري, الهجمة اليوم قاسية على المثقف, فالأميركيون وضعوا أرجلهم الحديدية في المنطقة, وإسرائيل توحي بانتصارها علي المواجهة العربية, وبتعبير أدق علي الرفض العربي الهش الذي راح يتهدم بهرولة الأنظمة العربية الواحد بعد الآخر, وكأن مسرحية هزلية تدور علي مسرح المنطقة..وأوروبا الضائعة بين مصلحتها وثقافتها لم تعد الأنموذج الذي يسحر المثقف العربي بعد أن وجد أنه في كذبة كبيرة, فالغرب ظل استعماريا في نظرته الي العالم الثالث, ومتعاطفا مع الصهيونية.
الانسان العربي لم يتجاوز الحالة التوصيفية, وفشل ببناء فكر عربي ينطلق من تحديات الواقع, فظل رومانسيا كما كان في كل المراحل السابقة, فلم يعتمد منهجيا منذ تسلم المماليك قيادة مصر والمشرق العربي, ومنذ جاءت حملات التتريك وعمليات التشويه والتفكيك التاريخي والجغرافي والحضاري للعرب علي يد سايكس- بيكو, ووعد بلفور, ونتائج هزائم متلاحقة 1948-1967 وتلك الهرولة المتسارعة الآن باتجاه أميركا وإسرائيل, وظهور الفكر السلفي, ويتعاظم الخطر اليوم في محاولة وضع الفكر القومي العربي في قفص الهزيمة والمؤامرة والقصور, والعمالة, ويشارك في ذلك المهزومون فكريا أو من فقدوا مواقفهم في السلطة أو المجتمع وتحولوا الي ندابين تستضيفهم محطات التلفزة ليس احتراما لتاريخهم ونضالهم وإنما للسخرية منهم ومن تاريخ حركاتهم وأحزابهم والتدليل علي الفشل الايديولوجي الذي كانوا في إطاره, لقد فشل المثقف العربي في إقامة مراكز بحثية لدراسة الواقع العربي وفي الاستفادة من الإرث الحضاري للعرب, وتحليل كل ما كتب في الماضي في الثقافة والخطاب الثقافي والسياسي..وفي كل ما كتب عن هذا الماضي ووضعه في سياقه التاريخي وترميم الفجوات الثقافية التي نعانيها كأمة.
إذا كان برانتد راسل في كتابه العلم والذي قد تنبأ أن تطور الفنون والعلوم ستعرض قيادة المبدعين في المستقبل..فهل يمكن أن ينهض المثقف الي منصة القيادة الفعلية?!
لا يمكننا التفاؤل..فالمثقف العربي لم يخرج الي الآن من النفق المظلم, عندما بهرته مباديء الثورة الفرنسية وجد نفسه مخدوعا بالسياسة الفرنسية والانكليزية, وها هو اليوم يحاول أن يجد في الأنموذج الأميركي الطريق لتحقيق الديمقراطية والإصلاح..ونسي القتل في العراق وفي فلسطين, ومحاولات أميركا إجبار الأنظمة العربية علي الخنوع للمشروع الأميركي -الصهيوني تحت شعار الإصلاح والديمقراطية, وحقيقة نجحت أميركا في تجييش المثقف العربي ودفعه في اتجاه مقاومة اخر المعاقل القومية والوطنية التي ترفض المشروع الصهيوني-الأميركي وهي ترسمه كمثقف براغماتي..كل ذلك وضع المثقف أمام اتجاهين..إما استمرار حالة الانبهار بأفكار الغرب بالرغم مما تمارسه السياسة الغربية في الوطن العربي, أو الانسياق وراء فكر سلفي يضع العقل في حالة الاستسلام القدري, وفي كل منهما يجد المثقف العربي نفسه صنميا, لتصبح العلاقة بين المثقف ومجتمعه مقطوعة..لا بل يقف كل منهما في اتجاه مختلف ومعاد.
المثقف العربي ظل أسير حالة الانبهار طوال القرن العشرين والي الآن..ذات يوم بهره النموذج السوفييتي..كان المثقف يتأبط بتباه غريب كتب ماركس ولينين وهيغل وانجلز وماوتسي تونغ والجنرال جياب..ويطلق شعر رأسه وذقنه ويرتدي لباسا فوضويا, ويعلن عداءه للتاريخ, والفكر القومي, وللتراث.ولم يكن المثقف مثقفا إلا إذا قرأ الكتب الماركسية وعاش هذه الفوضي, وكانت المرأة تقدمية ومتحررة ومثقفة وأنموذجا للمرأة الحضارية كلما تجاوزت حواجزها الاجتماعية والدينية, وفي المقابل كان الغرب يصنع أنموذجا آخر من المثقف العربي, أنموذج سلفي تكفيري يحمل المدية والبندقية للقتل والذبح وإطلاق الرصاص والعمل علي تفكيك وإجهاض كل فكر تنويري وقومي..وفي كلا الحالتين ظل المثقف العربي تابعا وضائعا..فهو اليوم منساق باتجاه الامبريالية الأميركية, ينتقد, يشتم, يناطح في الفضائيات الأنظمة ليس لأنها قاصرة وعاجزة ولا تحترم حقوق مواطنيها..وإنما لتأكيد وجوده في صفوف المعارضة, وتحت شعارات كثيرة, وبرزت شللية منظمة تحت سقوف المنتديات وشللية فوضوية تذكرنا بزمن الفورة الماركسية التي اجتاحت المثقفين العرب. هو يريد أن يقول كلاما صارخا إما للهروب من أزماته أو لاعلان ولائه للامبريالية..ويقال إن كثيرين تدفع لهم المخابرات الأميركية بطريقة أو بأخري ليستمروا في هذا الرفض الديماغوجي بعيدا عن الأسلوب البحثي الذي هو السبيل ليقف المثقف منتصرا لثقافته العربية ولمستقبله..في ظل صراع حاد تقوده هذه الامبريالية..
لماذا يعمد المثقف العربي الي الدخول في سلة الامبريالية الأميركية, ويتوجه بآماله إليها علي أنها المخلص الأوحد برغم تاريخها المشبوه والمعادي للعرب والعروبة ومستقبلهم.
هذا التحول باتجاه الغرب من قبل المثقف العربي, أدي بالمثقف الي الاستهانة بفكرنا القومي, وبتجربتنا النضالية لصنع الاستقلال وبناء وحدتنا القومية والثقافية..والي الاستهانة بوحدة شخصية الأمة في أجواء صاخبة اعلاميا وسياسيا وعسكريا, وخلق حالة قطعية كاملة مع الماضي بدعوي أنه سلسلة من الهزائم والانتكاسات ووضع هذا الماضي كما هو الحاضر في موقع الاتهام.
المثقف العربي لم يستطع بناء شخصيته المتوازنة الواعية المدركة لذاتها وقدرتها ومجتمعها.. فالمثقف سواء أكان من الطبقة الغنية أو الفقيرة أو المتوسطة ظل بعيدا وإن أعلن خطابا بدا في ظاهره جماهيريا..لكن التحريضية أفقدته مصداقيته, والسوداوية غلفته بالهزيمة, فبدا الخطاب في جوهره صدي لخطاب آخر يسمعه المواطن في الاذاعات ومحطات التلفزة وعلي ألسنة هؤلاء المبشرين الغربيين وهم علي ظهور دباباتهم.
المثقفون العرب اليوم خليط غير متجانس من ايديولوجيات ومشارب كثيرة برجوازية أو اقطاعية أو سلفية أو ماركسية أو قومية, فشلت في الماضي بتقديم أنموذجها الحي الناجح, والمنحدرون منها انضووا تحت مظلة الليبرالية ليس لأنهم ليبراليون وإنما للمسارعة في أخذ المقاعد وللأسف لم يقدم المثقف أيا كان مشربه-نفسه أنموذجا جماهيريا..حتي الذين سافروا للتحصيل الدراسي الي الدول الاشتراكية عادوا إلينا ورأينا أن أكثرهم جاهلون..ونشروا الجهل في جامعاتنا ومعاهدنا العلمية واتبعوا أساليب الفساد مع الطالب والمجتمع.
الوضع لم يكن أحسن حالا بالنسبة للمتخرجين من الغرب.. فمنهم من بقي في الغرب.. ومنهم من عاد وقد تملكته حالة الانفصام. فأقام قطيعة مع المجتمع.. ومع مؤسساته, وإذا ما كنا نري غير ذلك في هذا المثقف أو ذاك فإن ذلك لا يعدو كونه حالة خاصة لا يمكن أن نؤسس عليها مستقبل الثقافة العربية.
إن الغرب يساهم مساهمة مباشرة ومدروسة في تفكيك ذهن الإنسان العربي عبر وسائل الاتصال الحديثة ومراكز المعلومات المهيمنة.. فثمة محطات تلفزيونية وإذاعات وصحف ومراكز معلومات ووكالات أنباء تضخ أربعا وعشرين ساعة بكم هائل من الأفكار والأخبار والتعليقات لتخريب الثقافة والفكر والبناء القومي للأمة العربية والأنماط السلوكية والعادات المرتبطة بالشخصية القومية لأن هذا التخريب يأتي ملبياً للأهداف السياسية الأمريكية والصهيونية وإلي طمس الهوية القومية وتشويهها.
إن المثقف العربي لا يستطيع بناء الشخصية القومية للأمة أو تعميق الانتماء إلي أمة واحدة أو معالجة الظواهر السلبية في المجتمع والأمة بالندب والتحريض علي الهدم.. وإنما باكتشاف الأخطاء وتحليل أسبابها وأساليب انتشارها ووضع الحلول المناسبة عبر مراكز بحثية .. والتركيز علي القوي التي تحاول تهديم وحدة الأمة وقوتها والتأكيد علي مخاطر أي دور أميركي في المنطقة.
يقول ( روبوتوم) وهو نائب وزير خارجية أميركي سابق : إن مصالح أميركا ممتدة إلي آخر الكون ( وعبر هذا المنطق المصلحي, لا تتورع الامبريالية الأميركية من أن تستخدم أشد الوسائل دماراً من أجل تمرير مشروعها الثقافي والسياسي وتأمين السيادة له.. كما فعلت بإلقاء القنبلة الذرية علي اليابان لتنهي الحرب العالمية الثانية وليبدأ زمن العنف الأميركي.
المثقف العربي يجب أن ينبه إلي مخاطر التحرك الأميركي في المنطقة.. يقول تقرير من جامعتي لندن وباريس عام 1907 ) إن مستقبل الإمبراطوريتين الفرنسية والانكليزية مهدد في المنطقة المطلة علي المتوسط من شرقه إلي جنوبه حيث يقطنها 35 مليوناً من البشر وتتمتع بثروات طبيعية وبأسباب القوة والنهضة والوحدة.
وفي تقرير سري رفعه لورنس عام 1912: عرفنا كيف نعامل العرب وهم الأقل وعياً للاستقرار من الأتراك فسيبقون في دوامة الفوضي السياسية داخل دويلات صغيرة حاقدة ومتناثرة غير قابلة للتماسك. ( ويأتي في التقرير ) إذا أحسن التصرف تجاه هذه البلاد فإنها سوف تبقي كقطع الحجارة الملونة الصغيرة ,مجموعة الأقاليم الصغيرة المتنافسة والعاجزة عن التلاحم.
ويقول: ضرورة إقامة حاجز بشري غريب وقوي يفصل الجزء الآسيوي عن الجزء الأفريقي في المنطقة العربية حليف للدول الغربية ومعاد لسكان المنطقة في إشارة إلي إسرائيل.
إن المثقف العربي اليوم في دوامة تمنعه أن يفتح عينيه جيداً علي خطورة ما يحيط به وبأمته.. فالصهيونية المدعمة من الإدارة الأميركية ومن أوساط وأحزاب وحكومات عديدة.
في هذا العالم بحكم التأثير الأميركي علي سياسات الدول..وبقوة الضخ الاعلامي الموجه الي العالم يجعل الصهاينة ضحايا النازية والحقد العربي...وبحكم فساد الأنظمة العربية وضياع المثقف العربي تعمل هذه الصهيونية علي إقامة اسرائيل في صورة اعادة تكوين لمملكة اسرائيل القديمة.
إن المثقف العربي الأصيل مطالب بعدة معارك دفعة واحدة, معركة في مواجهة هذا التدمير الثقافي وهذا الاصطياد لكثير من الاعلاميين والمثقفين لمصلحة المشروع الأميركي الصهيوني, فهناك مؤسسات اعلامية ومثقفون يتقاضون رواتب ضخمة وثمة مؤشرات مثيرة علي ذلك, فما أن تصدر مقولة أو اتهام بحق تلك الدولة أو ذاك النظام نري استنفارا اعلاميا وهياجا من قبل مؤسسات وأفراد لعزف المعزوفة نفسها كما حدث في مقتل الحريري ومن بعده إذ توجهت الاتهامات الي سورية خلال ثوان, ومعركة ضد هذا التفكيك الذي تعيشه الأمة ومعركة ضد النشاط الثقافي المعادي ومعركة ضد الجهل والفساد وديكتاتورية الأنظمة وبعدها عن جماهيرها, ومعركة تكوين ملامح رؤي ثقافية وسياسية وحالة نهوض ترتكز علي مكونات هذه الأمة الحضارية وعلي تطلعاتها نحو مستقبل أفضل يضع الأمة في سياقها الانساني والحضاري.