لاشك أن الشاعر لا يجهل جواب هذا السؤال، ويعرف جيداً أن الموت غير معني بقراءة الشعر، ولا يرأف بالشعراء لدى نهاية آجالهم. بل الشاعر يريد صناعة إجابته الخاصة دون انتظار إجابة من موت لا يجيب على الأسئلة عادة، ولعل الإجابة التي يرمي إليها الشاعر هي: إنك أيها الموت الذي يتساوى لديك البشر كافة، وان لم تقرأ الشعر فله البقاء لأنه عصي على الموت، وإن دفن تحت التراب من خطه بأنامله على الورق:
(سيصمتُ المغني.. ستسقط أوراق الحكايات في خريف العمر.. وتظل القصيدة مشرعة عليهم). ص53.
بعد الانتهاء من الأغنية سيصمت المغني مهما كان صوته عذباً، وفي الخريف ستذبل الأوراق الصفراء التي فقدت لونها لتهوي إلى الأرض بعد اكتمال دورتها الطبيعية. وبعد الفراغ من الحكايات لن يواصل الراوي الكلام أيضاً، وان كانت تلك الحكايات ليست إلا مدونة للحياة التي تنتهي بموت أبطالها حتماً، لكن هذا لا يعني أن القصيدة ستتساقط كما الأوراق، وستصمت كما المغني. وهنا إشارة خفية من الشاعر إلى أن الشعر أكثر بقاء من كل فنون القول المنطوقة والمسموعة، لأنه الكائن الشعري المنفلت من المحو، وان لم يقرأه الموت:
(وعلّك تدرك ذات موت.. إن البقاء للكلمات). ص121.
وعلى الرغم من أن الشعر يبدو المنتصر الوحيد، وإن انهزم الشاعر وانكسر, فإن الاحتفاء بالحياة لحظة ولادة القصيدة تختزل الكثير من الموات، فعندما ينتهي الشاعر من كتابة قصيدته يموت شيء بداخله، وإن منح الحياة لشيء آخر انسلخ عنه، إنها جدلية الموت والولادة التي تنتقل بأكثر من صورة من قصيدة لأخرى:
(هو الموتُ أن يجفَّ حبركَ عند ارتعاش القصيدة). ص66.
***
يستحضر الشاعر- كنقيض للموت- رمز الخصب الناطق في الطبيعة الصامتة، فيلجأ إلى صاحبة الولادات التي لا تنضب كي يحتمي من اليباب والقفر:
(لامرأة بمشيئة أنوثتها.. تنبتُ من كل حبَّة رمل سنبلة.. في كلِّ سنبلة عشر حبَّات من القمح
ودعوة للحياة). ص40.
ولكن هذا العاشق الذي يلوذ بالمرأة لا يفسح لها المجال للإفصاح عن نفسها، فالقصائد تخلو من بوح المرأة، أو الحوار معها، وكأنه يريد منها الاستماع إليه فحسب. وبذلك يكون حضور المرأة سلبياً لانعدام المشاركة الفعالة، رغم الدور الكبير الذي تلعبه هذه المرأة، حتى إنها قد تأخذ أغلى ما يمتلك الشاعر لتحتفظ به. فقدر الشاعر أن يبقى أعزل ومعتزلاً في القصائد معظمها:
(وبقيتُ وحيداً.. أشربُ فنجان القهوة في ضجر.. والروح لديك). ص11.
نكتشف أن الأنثى تمتلك أيضاً في حال سلبيتها طاقات متجددة لا تنتهي، فهي تزود الحياة بما يأخذه الموت، حتى إن رمل الصحراء الذي يقصي خضرة الإنبات تحبل بحضورها مادة الرغيف الأولى. فيصبح الموت قراراً قابلاً للتأجيل لعاشق الأنثى الدائر في فلكها، وكرغبة في التشبث بالحياة وعدم مهادنة الموت في حضور المحبوبة التي أصبحت العالم بأسره لدى ذلك العاشق الذي لا يجيد غير كتابة الشعر:
(تراجعتُ عن موتي.. اليوم.. رأيتكِ). ص106.
ولكن اللقاء مع هذه الأنثى بما تختزله من دلالات الخصب لا يستمر طويلاً، وكأن حضورها البهي رغم دلالاته الثرية مؤقت وآنيّ، فلا يمكن تجاهل الغياب الذي يعقب مرور الأيام وتوالي السنين، فاللقاء يأتي بعد الفراق حتماً، وهذا لا يعني أن ليس هناك فراق آخر، ولقاء جديد أيضاً، فالحضور يستحضر نقيضه دائماً في أكثر القصائد:
(مضى اليوم عام.. أذكر الآن أنَّا افترقنا.. فكم فراق يطوي فراقكِ الوحيد.. وكم موتٍ.. أنتِ أدرى). ص62.
ولا يشترط الشاعر أن تكون المحبوبة هي المعشوقة لا غير، فقد تكون الأم بكل ما فيها من عطاء لا حدود لحنانه، وفي كلا الحالين ليس هناك حضور دائم، فثمة غياب حدث منذ زمن بعيد، وغياب يحدث كل يوم:
(من سيضمك في هذا الكون النازف قحلاً يا غريب؟ فأمك ماتت منذ يتمين.. وعام). ص59.
***
يسترعي الانتباه في قصائد عدة أن هناك تمازجاً واختلاطاً بين اختلاج الجسد النابض بالحياة، والسكون الذي يعقب ذلك الضجيج، لهذا يكثر جدل المتناقضات بين: الحركة/ السكون، الرعشة/ الخمود:
(وصار ارتعاش النبض في قلبي.. انتحاراً). ص56.
فاللقاء الذي ينتهي بخمود شهوة التواصل هو موت بطريقة ما، فالموت أكثر حضوراً مما قد نظن للوهلة الأولى. وهذا ما نجده في قصائد أخرى حيث يتقابل: الانطفاء/ الاشتعال، والياسمين/ الرماد:
(الليلة أطفئ عمراً من الياسمين.. وأشعل عمراً من رمادي). ص64.
لابد من الإشارة إلى أن رماد الموت لا يتحول إلى مادة للإنبات، ولكن الرغبة في الحياة قد ترى الولادة في رماد الانطفاء، إنها جدلية: الخصب/ اليباب، الولادة/ الموت:
(سأنهض من الرماد.. مارداً من غيم). 98.
وسرعان ما نكتشف أن الموت الفجيعة الأكثر حزناً، فثمة إقرار لا هروب منه بحقيقة الموت، وتسليم لا مناص عنه بحضوره الذي هو نقيض لحضور ما عداه، لهذا ثمة احتفاء بذلك القدوم المنتظر، ولكن هذا الاحتفال لا يعبر عن السرور بالتأكيد، بل هو أحد وسائل التعبير لا أكثر ضمن جدلية: القدوم/ الرحيل:
(السمكة.. حين يخرجها الصياد من الماء.. لا تتخبّط.. فقط.. تستقبل الموت بالرقص). ص92.
ينهي الشاعر مجموعته بسؤال آخر، وهو سؤال لا يبحث عن الإجابة أيضاً، إنه مجرد إعلان الحضور الذي يعلن وجوده ريثما يأتي الموت صاحب النهايات جميعها:
(أيتها القصائد التي لن أكتبها.. هل تغفرين يوماً.. موتي؟). ص123.
العنوان: هل تقرأ الشعر أيها الموت.
المؤلف: سليمان محمد نحيلي.
الناشر: دار أبي الفداء 2011.