تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


أخوة التراب في المنفى والشتات..ينشـدون فـي الدروب .. غداً سـنعود والأجيال تصغي

ثقافة
الاثنين 30-5-2011
فادية مصارع

حق العودة.. حق مقدس غير قابل للتصرف، ولاينقضي بمرور الزمن، ولايسقط بالتقادم، ولايخضع للمفاوضة أو التنازل أو المساومة، كما أنه مستمد من القانون الدولي المعترف به عالمياً، ومكفول بمواد الميثاق العالمي لحقوق الإنسان الذي صدر عام 1948.

فللاجئ الحق في العودة إلى المكان نفسه الذي طرد منه أو غادره، هو وآباؤه وأجداده.‏

منذ نصف قرن ونيف والفلسطينيون يدافعون من أجل هذا الحق، لأنهم مؤمنون بمبدأ (ماضاع حق وراءه مطالب)، فالملايين في الشتات لم ولن يرضوا عنه بديلاً، ستة عقود وأكثر ولايزال الفلسطيني يحلم بالعودة إلى الوطن، إلى حضن الأم الحبيبة حتى ولو جثة هامدة، لم يفقدوا الأمل ولم يسمحوا لليأس والإحباط أن يتسللا إلى نفوسهم، ومنذ ذاك الوقت مافتئوا يدرسون الكتب والخرائط وينظمون الجمعيات، ويشكّلون اللجان الأهلية في كل مخيم وتجمع.. وكل مدينة وقرية وهم يدافعون عنه بكل السبل الممكنة.‏

أما الشعراء والأدباء والمثقفون فلهم طريقتهم المختلفة في إيصال الصوت الفلسطيني إلى العالم، والصرخات في حقهم بالعودة عبر منابرهم الخاصة، وسلاحهم في معركة البقاء والوجود هو الكلمة وحروبهم لها صورها ولغتها وأدواتها.‏

ونحن الذين تربينا على العلاقة مع القضية الفلسطينية ولاتزال حية في وجداننا، عرفناها من خلال مناهجنا التي كانوا حاضرين فيها شعراً ونثراً ومسرحية ومقالة وراوية، وفي مقدمتهم شاعر المقاومة الذي كان ولايزال ينشد أغاني الدروب وهو أحد شعراء النكبة التي حصلت خلال دراسته المرحلة الابتدائية والذي يعتبر ميلاده الحقيقي سنة 1948، لأن الصور الأولى التي يذكرها هي الأحداث التي وقعت في تلك الفترة.‏

تجربة أولى‏

أول مايذكره سميح القاسم في ذلك العام هو فرح الناس لدخول جيش الإنقاذ إلى فلسطين، ثم دموعهم عند انسحابه، وهو لن ينسى تلك الصور أبداً، إنما يذكر تماماً ذلك الانسحاب غير المنظم، الضباط يركبون السيارات مشياً على الأقدام، أكثر من ليلة كانوا ينامون وهم لابسون ثيابهم ومستعدون للرحيل.. كل مايذكره مشهد الإسرائيليين وهم يخلعون الأبواب، وينهبون البيوت.‏

في سنة 1954 كتب القاسم موضوع إنشاء، فوجئ بالأستاذ يلفت نظره إلى بعض المقاطع فيه، ويقول: إنها شعر.. دهش! سهر بعدها عدة ليالِ يحاول كتابة الشعر، فشل.. فأخذ يقرأ شعراً كثيراً إلى أن أصبح شاعر المقاومة الكبير.. يكتب لها وعنها، عن «مواكب الشمس».. و«أغاني الدروب و«دخان البراكين» وغيرها الكثير، يطرح الشعارات يصرخ في وجه المحتل سأقاوم، فالمرارة والألم كبيران، لكن الأمال كبيرة جداً، عبر الشاعر عن المرارة بنغم فاجع يائس، لكن الأمل والحلم كانا رفيقيه في كل ماحرر وكتب يقول:‏

لن تسكت هذه الأشعار‏

لن تخمد هذي النار‏

مادامت هذي الدنيا‏

مادمنا نحيا‏

في عصر الإقطاع النفسي‏

فسأحمل فأسي‏

وسأمضي قدماً قدماً، في درب الشمس‏

باسم الله الطيب.. باسم الإنسان‏

فهو على ثقة تامة بقوة الشعب التي لابد أن تستأصل الغدة السرطانية التي لاتزال تأكل الجسد الفلسطيني.‏

وفي مغاور المدى الدفين في الظلام‏

يعوي مخاض الرعب والقتام‏

والسرطان يطفئ الشمس ويستفيق‏

يشبّ من شهوته حريق‏

متى تزلزل الوجود صرخة التئام؟‏

إلى الأمام.. إلى الأمام!!‏

فمن ألف ألف عام والأحباب ينتظرون خلف الحدود في أسى ولهفة مجيئنا، وأذرعهم مفتوحة لضمنا وشمنا فهم طعام شعب لاجئ شريد فهل نعود؟ هل نعود؟!.. أسئلة لاتزال برسم كل من يبحث عن موطن الجدود والجذور.‏

حيرة العائد‏

أما الشاعر محمود درويش الذي صرخ ذات مرة بوجه ممثل السلطة الإسرائيلية (سجل أنا عربي) فهو سار على الدرب نفسها والطريق عينه.. طريق العودة دون أن ينظر إلى الوراء.‏

يقول في قصيدته «هذا الطريق»‏

أبداً على هذا الطريق‏

راياتنا بصر الضرير، وصوتنا أمل الفريق‏

أبداً جحيم عدونا، أبداً، نعيم للصديق‏

بضلوع موتانا نثير الخصب في الأرض اليباب‏

بدمائنا نسقي جبيننا في التراب‏

ونرد حقلاً شاخ منه الجذع، في شرخ الشباب‏

أبداً على هذا الطريق‏

المنفى المتدرج‏

لم تنته الطريق فالرحلة ابتدأت، وقد تفضي إلى نهاية الطريق أو إلى بداية طريق آخر.. وهكذا تبقى ثنائية الخروج والدخول مفتوحة على المجهول.‏

درويش كان في السادسة من عمره حين خرج إلى مالايعرف، حين انتصر جيش حديث على طفولة لم يكن يأتيها من جبهة الغرب إلا رائحة البحر المالحة، وغروب شمس الذهب على حقول القمح والذرة، لم تتحول السيوف إلى محاريث إلا في وصايا الأنبياء، وانكسرت محاريثنا في الدفاع عن طمأنينة العلاقة الأبدية بين ريفيين طيبين وأرض لم يعرفوا غيرها، ولم يولدوا خارجها، أمام حرب الغرباء المدججين بطائرات ودبابات وفرت لرواية حنينهم البعيد إلى أرض الميعاد شرعية القوة، كان الكتاب يتغذى من القوة، وكانت القوة بحاجة إلى كتاب، ويتابع قائلاً: منذ البداية صاحب الصراع على الأرض صراع على الماضي والرموز، ومنذ البداية كانت صورة داود هي التي ترتدي دروع «جوليات»، وكانت صورة جوليات هي التي تحمل حجر داود.‏

ولكن ابن السادسة لم يكن في حاجة إلى من يؤرخ له، ليعرف طريق المصائر الغامضة التي يفتحها هذا الليل الواسع الممتد من قرية على أحد تلال الجليل، إلى شمال يضيئه قمر بدوي معلق فوق الجبال، كان شعب بأسره يقتلع من خبره الساخن، ومن حاضرة الطازج ليزج في ماض قادم هناك.. في جنوب لبنان،نصبت خيام سريعة العطب.. ومنذ الآن.. ستتغير أسماؤنا، منذ الآن سنصير شيئاً واحداً، بلا فروق، منذ الآن سندفع بختم جمركي واحد.. لاجئون ويسأل والده:‏

- ما اللاجئ يا أبي؟‏

- لاشيء، لاشيء، لن تفهم‏

- ما اللاجئ، ياجدي، أريد أن أفهم‏

لم أعد طفلاً، منذ قليل، منذ صرت أميز بين الواقع والخيال، بين ما أنا فيه الآن، وما كان قبل ساعات، فهل ينكسر الزمان كالزجاج؟ لم أعد طفلاً منذ أدركت أن مخيمات لبنان هي الواقع وأن فلسطين هي الخيال، لم أعد طفلاً منذ مسني ناي الحنين، فكلما كبر القمر على أغصان الشجر حضرت فيَّ رسائل مبهمة إلى دار مربعة الشكل، تتوسطها توتة عالية، وحصان متوتر، وبرج حمام، وبئر على سياجها، قفير نحل يجرحني مذاق عسله، وطريقان معشوشبان إلى مدرسة وكنيسة، واسترسال يفيض عن لغتي‏

لم أعرف كلمة «المنفى إلا عندما ازدادت مفرداتي، كانت كلمة العودة هي خبزنا اللغوي الجاف، العودة إلى المكان، العودة إلى الزمان، العودة من المؤقت إلى الدائم، العودة من الحاضر إلى الماضي والغد معاً، العودة من الشاذ إلى الطبيعي، العودة من علب الصفيح إلى بيت من حجر، وهكذا صارت فلسطين هي عكس ماعداها، وصارت الفردوس المفقود، إلى حين.‏

لكن المنفى ينبت مرة أخرى كالحشائش البرية تحت ظلال الزيتون وعلى الطائر وحده أن يوفّر للسماء البعيدة نقطة العلاقة بأرض أخرجت من خصالها السماوية.‏

لم أعد بعد.. لم تنتهِ الطريق لأقول مجازاً إن الرحلة ابتدأت ماذا تبقى لكم؟‏

أما الكاتب والروائي غسان كنفاني فكان يرى أنه لامحال عن عودة اللاجئ الفلسطيني إلى أرضه، ولابديل عن الوطن الذي طردوا منه عنوة وقسوة.. فالشعب الفلسطيني لابد عائد وسيسمع صوت أقدامه وأصراره كل العالم.‏

غسان الذي ترجمت معظم أعماله ونشرت في نحو 16 لغة وعشرين دولة ومابين عام 1983- 1986 تم اختيار أربع روايات وقصص من أعماله لتنقل إلى الألمانية، وفي عام 1992 ترجمت روايته الشهيرة (عائد إلى حيفا) وفي 1994 رواية «أرض البرتقال الحزين» إلى الألمانية.‏

أما رواية «رجال في الشمس» فقد نقلت إلى اللغة الإنكليزية في السبعينات وصدرت عن دور نشر في إنكلترا والولايات المتحدة، ثم نقلت خلال العشرين سنة الماضية إلى 16 لغة، وصدرت الطبعة الدنماركية لها 1990 والإنكليزية 1992، في القاهرة، كما نقلت إلى الإيطالية وصدرت في العام 1991، وإلى الإسبانية في العام نفسه، وجمعت الروايات الثلاث «رجال في الشمس» و«أم سعد» وماتبقى لكم في مجلد واحد صدرفي مدريد، وصدر له في بيروت 1995 مجموعة «فارس فارس» وهي مجموعة مقالات نقدية، وهو في جميع راوياته وقصصه، يحكي قصة الفلسطيني الذي ضاع وطنه، وسرقت أرضه، وهو يصرخ كي يوقظ النائم من سباته كي يقاوم لاسترجاع حقه، فلم يعد هناك فرق كبير بين خيمة أم سعد وخيمة أخرى، قصص كنفاني هي قصة المأساة الفلسطينية، والمخيمات والشتات والحلم بالعودة لوطن أضعناه بأيدينا، والعقاب ألا نجد شيئاً ننتمي إليه، وقد كتب سالم أبو هواش رئيس مجلس إدارة بديل (المركز الفلسطيني لمصادر حقوق المواطنة واللاجئين) يقول:‏

«أي غسان قلت مراراً وتكراراً وما بين السطور، إن لكل جريمة عقاباً، أضعنا الوطن، والعقاب ألا نجد شيئاً ننتمي إليه، أو أن العقاب يكون بأن نتخيل أننا ننتسب إلى شيء لنكتشف أن الوطن يعاقبنا من جديد بكشف انتسابنا انتساباً الزائف، ولندفع الثمن مرة أخرى في سلسلة غير منتهية من الجريمة والعقاب.‏

ديوان العودة‏

ديوان العودة عكف على جمعه الشاعر والأديب محمود عطية، وقد شكل إضافة مهمة ونوعية لأدب العودة ماجعله مرجعاً يمكن الاعتماد عليه في كثير من الدراسات والأبحاث المتعلقة بهذا الموضوع، وهو يتضمن مئة قصيدة شعرية اختارها من الأدب العربي عن فلسطين خلال أكثر من سبعين عاماً وفيه نقرأ للشاعر أحمد محرم في قصيدة بعنوان «نكبة فلسطين» نشرت عام 1933:‏

في حمى الحق ومن حول الحرم أمة تؤذى وشعب يهتضم‏

فزع القدس وضجت مكة وبكت يثرب من فرط الألم‏

ما لنا في هذه الدنيا سوى غارة العادي وعسف المحتكم‏

قد سئمنا حياة ومللنا وجوداً كالعدم‏

ربّ أنت العون إن طاف طائف البغي وأنت المنتقم‏

عائدون‏

وفي الديوان قصيدة لسليمان العيسى شاعر القومية العربية بعنوان عائدون وفيها يؤكد حتمية الرجوع مهما مضت السنون:‏

عائدون.. عائدون إننا لعائدون‏

سنعود حنجرة تصيح وهتفة‏

سنعود أسمعها، وتطبق عزلتي‏

وضريبة الوطن الشهير تحية‏

صخبت ولافتة.. علت، ونداء‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية