ويبدو أن البعض يخشى أن يتسلل عبر حرية الإعلام مدسوسون ممن يمكن أن يبيعوا ضمائرهم أو انتهازيون (يميلون مع النعماء حيث تميل) لايملكون رأياً يدافعون عنه ولامبدأ يستبسلون من أجله، وليس بوسع أحد أن ينكر أن الساحة الإعلامية ملأى بهؤلاء الذين جندوا أقلامهم وثقافتهم لصالح أعداء الأمة وباتوا ينهشون في الجسد العربي وبعضهم فاجأنا بكراهيته وحقده فاستغل الحملة الدولية ضد بعض قوى الممانعة في المنطقة ليشهر سكينه ويغرزه في وجدان أمته.
ولقد بشرنا بعضهم الآخر بثقافة السلام التي كنا نتوقع أن تكون بحثاً عادلاً ومنصفاً في إطار التعايش الممكن وتوصيفاً موضوعياً لعلاقات جديدة بين شعوب المنطقة بحيث يستعيد صاحب الحق حقه كاملاً في إطار الشرعية الدولية وعبر المفاوضات الحضارية تجنباً للحروب المدمرة، فإذا بعضهم يوظفون طاقاتهم لخدمة المشروع الصهيوني وحده، ويعادون المشروع العربي بحيث يصير الطرح بحثاً عن الفتنة، وليس بحثاً عن الحقوق التي يجب أن تصان ورأينا بعضهم يسخر من ثوابت الأمة ومن أخلاقها وتاريخها ويهاجم لغتها وثقافاتها و أديانها.
وإننا ندرك أن البعض يخشى من أن يواجه نوعاً من هذا الاستغلال الحرية الإعلام، وقد امتلأ العالم بمنظمات دولية صار همها أن تدافع عن حقوق الشواذ فكرياً وجنسياً، وبعضها ينفق الميزانيات الضخمة لتحقيق اختراقات إعلامية للفكر والثقافة العربية عن طريق الإعلام، وقد بدأنا نلحظ انتشار برامج فضائية مكلفة جداً، همها الوحيد تحقيق هذا الاختراق وإلهاء الشباب العربي عن قضايا أمته، وإشغاله بقضايا تافهة يقبل عليها بشوق إلى التصويت الذي حرم منه في السياسة فوجده في الفنون، بل يشبه الجنون في تلك البرامج التي تقترح على الشباب أن يجلسوا أمام التلفزيون طوال الليل والنهار ليتفرجوا على من تأكل ومن تشرب ومن تجلو الصحون، في وقت بدأ فيه الأقصى يتهدم وتنهار أساساته وجدرانه. وهذا النوع من الاختراق ليس أقل شأناً من الاختراق الصريح للإعلام السياسي في كثير من الصحف والمحطات الفضائية التي تردد مصطلحات الإعلام الصهيوني وتجعلها قيد التداول (عبر سياسة الأمر الواقع) حتى بين الذين يرفضونها والتي تروج لمشروع الشرق الأوسط الكبير كأنه قدر لاراد له، وأنه هو الخير الذي سيعم البلاد ويجلب الديمقراطية المنشودة وتتجاهل أنه مجرد تعليب جديد لمشروع «إسرئيل» الكبرى.
لقد بات إطلاق حرية الإعلام مفتاحاً لعملية الإصلاح، ونحن نذكر القول الشهير«أعطني صحافة حرة أعطك مجتمعاً صالحاً» وبوسعنا أن نضيف عليه «أعطك حكومة ومجتمعاً لايستطيع الفساد أن يتسرب إليهما، لأن الإعلام كاشف وفاضح، ودوره الرقابي يتيح له أن يكون عوناً للحكومة والمجتمع في الرقابة، وقد كان الشعار الشهير «لارقابة على الإعلام غير رقابة الضمير». مدعاة لانطلاقة إعلامية هائلة لوأن القائمين على المؤسسات الإعلامية طبقوه بروح النص، وليس بالشكلانية التي تبطل مفعوله.
وكما أن الحرية لاتعطى وإنما تؤخذ فإن على الإعلاميين العرب جميعاً أن يناضلوا من أجل أن تختصر كل قوانين الصحافة في الوطن العربي إلى كلمتين هما«الصحافة حرة» وهم بالضرورة يدركون أن الحرية مسؤولية وأنها تنتهي عند حرية الآخرين، وأن من يعتدي على ثوابت الأمة وعلى مصلحتها العليا ليس جديراً بالحرية ولن يسمح المجتمع لصحافة أو إعلام بأن يهاجم قيمه الكبرى وأن يخون قضاياه وماعدا ذلك، فإن اختلاف الرأي هو مفتاح بوابة الحقيقة.وعلينا أن نتعلم حضارتنا ثقافة الاختلاف وهي سر عظمة الحضارة العربية الإسلامية. ولنا أن نتأمل الفقه الإسلامي ونرى فيه من اختلاف وتنوع وتعدد في المذاهب، عاشت فيه الأمة قرونها الطويلة وكان شعار مدارس الفقه قول الإمام الشافعي« رأيي خطأ يحتمل الصواب ورأي سواي صواب يحتمل الخطأ» وعلينا أن نتعلم ثقافة الاختلاف وكذلك من الحضارة الغربية التي يقدم لنا فيها فولتير- مثلاً- سعة رؤية للاختلاف حين يقول: قد أخالفك الرأي لكنني مستعد أن أضحي بحياتي دفاعاً عن رأيك.
ولنعترف أن ثمة من يخشى حرية الإعلام لأنهم لم يعتادوا عن أن يخالفهم الرأي أحد. وهم يضيقون ذرعاً بمن قد ينتقدهم في الصحافة وهم بحاجة إلى دربة على أمرين الأول: هو اتساع الصدر والثاني الذي نحتاج إلى الدربة فيه. فهو مدافعة الرأي بالرأي والحجة بالحجة، أو اللجوء إلى القضاء النزيه العادل وليس اللجوء إلى المنع أو التحريم ويحضرنا هنا قول جفرسون: «عندي أن أعيش في بلاد فيها صحافة وليس فيها قانون أفضل من أن أعيش في بلاد فيها قانون وليس فيها صحافة».