لم يكن مجرّد ديك عادي، يتخطّر في الأزقة وفوق الأسوار، أو يستقبل الفجر بصياحه الواثق الرصين، أو مجرد ديك ملوّن الريش بعرف باشوي، يتزعّم عدة دجاجات في القريّة، بل كان فيه ميزات أخرى لا يعرفها سوى الشيخ، ويتوجب عليه أن يقدرها؛
كان الديك بالنسبة له صديقاً محاوراً، يضعه بين يديّه ويتحدث إليه، أحياناً يقرأ عليه بعض الأشعار والأخبار، والديك يبدي الإصغاء، وحين يتبرّم الديك، يتوقف الشيخ عن القراءة والمسامرة، فمن أكره الأمور عليه أن يكون مملاً. لكن قبل أن يخلد للنوم يوجه بعض له النصائح، كأن يقول: لا تسرف في اللهو، ولا تعابث دجاجة أبي حسن، فهي عتيقة، وعسى أن ينقطع بيضها، ليكف أبو حسن عن أكل البيض المسلوق، فزناخته لم تعد تحتمل، لا سيما حين يتدشّى! ولا يأخذنك الغرور وتذهب نحو الوادي، فالثعالب تتربص لأمثالك، لأنّ فيك وفرة اللحم ورفعة الزعامة.
حين كان الديك يمطّ عنقه ويصيح على غير المواقيت، يقهقه الشيخ، كأنّه سمع سرّاً جديداً، أو فكرة عظيمة، بينما زوجته تعتقد أن الخبل قد أصابه، وتشاركها بناته الثلاث في هذا الاعتقاد، وإذ كانت الزوجة فظّة وقاسيّة، فالبنات كنّ أقلّ فظاظة، وينظرن إلى أبيهنّ بعين الشفقة والريبة، وأحياناً يتندرن عليه!
لم يكن الشيخ يدّعي معجزة، أو يزعم أنه عارف بلغة الطير. كلّ ما في الأمر أنه رأى فيما يرى النائم، أنّ الله قد مسخ صديقه الزهراني ديكاً في قريّة مجاورة، وذلك لفعل شائن اقترفه في دنياه. وقد خاطبه الزهراني في الحلم شاكياً مستنجداً، قائلاً: اعلم يا أبا البركات أن الله قد خلقني ديكاً في بيت الجهني، وأنا على حالتي هذه لا أحد يعرف حقيقة أمري غيرك، فالحقْ بي يا أخي، لعلّ خلاصي يكون على يديك!
ذهب أبو البركات إلى تلك القريّة، وقصد بيت الجهني، ليتحقق من صدق منامه، وأدهشه أنّ الديك ما إن رأى الشيخ حتى انفرد من بين الدجاج ووقف أمامه، وتطابقت صفاته، حجماً ولوناً، مع صورة الديك الذي رآه في الحلم!
كان الزهراني، في حياته، كريماً فكهاً. لكنه، كثير الشطط، نفسه تهفو إلى الملذات ومعاشرة النساء، ويعلم الله ماذا اقترف في دنياه، حتى عاقبه المنتقم الجبار، وصيّره على هذه الصورة! ولا يشك أبو البركات في أنّ رؤيا النوم هذه، إذ وقعت عليه، فيها حكمة إلهيّة. وما كان للزهراني المتوفى أن يزوره في النوم، لو لم يكن الله يريد. فلبى نداء الديك، واشتراه بالثمن المطلوب.
ومنذ أن دخل الديك بيته، دخول الضيف العزيز، وضعه الشيخ في حجرته، ينثر له الحبّ، في أرض الحجرة الترابية وأمامها، ويراقبه بولهٍ كيف يلتقطه بحركات فكهة، ذكرته بحركات الزهراني على المائدة، حين كان يلتقط بالإبهام والسبابة حبّات الزيتون بما يشكّل صورة منقار!
ما فتىء الشيخ يجالس الديك، يسأله عن ذلك الفعل الخبيث الذي اقترفه في الحياة السابقة، ويخيّل للشيخ أنّ صديقه الزهراني يجلس قبالته في هيئة ديك، ويحدثه عن مغامراته، والشيخ ينقلب على ظهره مقهقهاً!
وحين يحين وقت الصلاة، يدعوه الشيخ، من باب المعابثة، للقيام. وهو يعرف أنّ التكاليف تسقط عن المكلّف في دور المسوخيّة، ويمكن للديك إذا شاء أن يوحد الله ويتعبّد على طريقته، ولله في خلقه شؤون، ولأنّ حالة هذا الديك خاصّة واستثنائية، يعتقد الشيخ أنه يحتاج إلى حلم آخر، أو إلى إلهام ربّاني، لكي يذبح الديك كأضحية، في الوقت المقدّر له، وهو ينتظر هذا الأمر بكل أريحيّة. ويعتقد أنّ الزهراني لا بدّ أن يعبر هذا الدور، الذي هو محنة، فرحمة الله لا حدود لها، والزهراني لن يكون مخلّداً في العقاب ورجيماً من رحمة الله. والشيخ لن يبادر من تلقاء ذاته لكي ينهي مدة العقوبة الإلهيّة التي فرضت على الزهراني، حتى ولو كان صديقاً أثيراً.
أمّا وقد مات الديك، فإنه لأمر محزن للشيخ، ويرى أنّ ما فعلته زوجته، يعدّ تجاوزاً على حدود الله، وقد أوقعه في حرج مع ربّه، لأنّ الرجل مسؤول عن بيته، ولهذا يطلب من الله المغفرة له ولأهل بيته من الحمقاوات الجاهلات.