والاكتشافات العلمية الجديدة مثل علم الوراثة وغيره،
إذ صعدت طبقات اجتماعية جديدة كالبرجوازية المدينية، وأفلت طبقات قديمة مثل الإقطاعية العسكرية والدينية، وظهرت مفاهيم جديدة بتأثير الثورة الفرنسية والثورة الصناعية في انكلترا، وفي هذا المناخ المختلف بالمذاهب الفكرية والأدبية والفلسفية والحافل بالتحولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية ولد غي دي موباسان الفرنسي رائد القصة القصيرة في العالم في عام 1850 من عائلة ارستقراطية أفلست مع ولادته.
هيمنت والدته على ابنها الذي يدين لها بالحساسية العالية والميل إلى الكتابة وحب القراءة، إذ كانت أمه تشجعه وتهتم به منذ أن كان صغيراً، كما أنه ورث منها طبعها القلق، رغم أنه كان يحب الحياة إلا أن شعوراً بالشيخوخة لازمه حتى وفاته عام 1893.
يروي الطفل غي موباسان أن حادثة وقعت أمام عينيه، فغيّر نظرته إلى الحياة، وهو لم يبلغ الثالثة عشرة من عمره، إذ طلب والده المبذّر مالاً من والدته التي كانت توفر مبلغاً لولدها غي للمستقبل، فعندما رفضت، انهال عليها بالضرب حتى وقعت على الأرض وهو يضربها ويلوي ذراعها طالباً المال ليصرف على الشرب والنساء والخادمات، حتى خُيل للطفل الذي تسمّر في مكانه وهو يرى ويسمع ما يدور بينهما، أن نهاية العالم قد حلت، وأن القوانين والشرائع قد تبدلت وتغيرت، ومنذ ذلك اليوم، اختلف كل شيء في نظره، ولم يلمح إلا إلى الجانب السيء من الحياة. فأثرت هذه الحادثة في نفسيته وذاكرته لدرجة أنه عكس في معظم قصصه التي اتسمت بالواقعية، وعكست موقفه الساخر والمتشائم تجاه الناس والحياة وتعاطفه مع طبقة الفقراء والمقهورين والمستضعفين في المجتمع.
لم تكن حياة الطفل غي هانئة وسعيدة، فقد كانت والدته تحب تغيير الأماكن، فتنتقل العائلة من مكان إلى آخر، ودب خلاف شديد في العلاقة الزوجية بين والده ووالدته بسبب مغامرات الأب النسائية، وفي كل ذلك كان الطفل يقف إلى جانب والدته، ويشير أحياناً بلسانه السليط إلى تصرفات والده، فانعكس كل هذا في نتاجه النثري في ما بعد.
لم تحتفظ ذاكرة الطفل شيئاً من الأماكن التي عاش فيها طفولته إلا عندما أصبح في السادسة من عمره في إحدى القرى الفرنسية القريبة من البحر، ويلحظ المتابع لنتاجه الأدبي أن الكاتب يشير إلى هذه الأماكن في معظم قصصه كأماكن واقعية يستنهضها الطفل في ذاكرته كأحلام اليقظة.
لم يكن الطفل يميل إلى الأدب في بادئ الأمر رغم إصرار والدته وتوجهه إليه، بل كان يهرب إلى متع الحياة والتسكع على شاطئ البحر النورماندي مع الصيادين والبحارة، لكن والدته لم تيأس بل أرادت أن يكون شخصية مهمة في سماء الأدب أو الفلسفة، لذلك دفعته إلى الدراسة وألحقته بالكنيسة، وأخذت تقرأ له مسرحيات شكسبير، ثم أرسلته إلى معهد ديني، هكذا كان العرف الاجتماعي بأن يرسل النبلاء أولادهم إلى هذا المعهد الذي يتميز بصرامة نظامه ورقة تعامله في آن معاً، لكن الشاب غي طرد من المعهد لسوء سلوكه وآرائه المتمردة من دون أن يتقدم إلى امتحان شهادة البكالوريا، فلم تيأس الأم، ودفعته إلى أن يحصل على الشهادة، ويتلقى دروسه في القانون. وعندما اندلعت المعارك بين فرنسا وبروسيا، التحق بالجيش الفرنسي، إلا أنه بدأ يهتم بالقراءة، ويقضي أوقات فراغه في كتابة القصائد الغرامية، ثم انتقل إلى باريس والتحق بوظيفة كتابية بسيطة في إدارة المستخدمين في وزارة التربية والتعليم، وهنا عاش غي وحيداً يقرأ ويكتب ويتسكع في شوارع باريس ليلاً ويتأمل نهر السن متذكراً شاطئ البحر في طفولته، وكلما تقدم به العمر ازدادت نظرته إلى الحياة تجهماً. ولعل أثقل ما يؤرقه أن يبقى في المكاتب منحنياً على السجلات والدفاتر وهو الذي اعتاد الهواء الطلق والفضاء الواسع، وهذا ما جعله يتخذ من الكتابة الأدبية مهنة يتخلص بها من العمل في الإدارات ويكسب رزقه، وعزف عن الزواج لأنه بنظره يقضي على الإبداع، لذلك أطلق على نفسه بأنه تاجر الكلمة أو تاجر النثر.
تعرف موباسان على غوستاف فلوبير الذي كان ذائع الصيت وأكثر الكتاب عزلة في أوروبا بسبب روايته «مدام بوفاري»، كان فلوبير يبحث عن تلميذ مخلص، وكان غي موباسان يبحث عن أستاذ محنك يقود خطاه إلى عالم الأدب، فواظب غي على الذهاب إليه طيلة سبع سنوات في أيام الآحاد حاملاً معه قصصه ومسرحياته. يقول غي موباسان عن تلك الفترة في مقدمة رواية «بيير وجان» الصادرة عام 1888: كان فلوبير يبدي اهتماماً بي، فوجدت الجرأة لأن أعرض عليه بعض المقالات التي أكتبها، فقال لي: لست أدري إن كانت لديك الموهبة أم لا؟ لكن ما قدمته لي يعكس بعض ملامح الذكاء، لكن لا تنسى يا فتى أن الموهبة ليست سوى الصبر الطويل، واظب على العمل...
واستمر غي طوال هذه السنوات حيث كان يكتب قصصاً وروايات قصيرة ومسرحية، ولم يكتب لأي منها الحياة، أما فلوبير فكان يقرأ جميعها ويبدي ملاحظاته النقدية، كان يقول: إذا كانت لديك أصالة، فعليك أن تظهرها، وإذا لم تكن لديك، فينبغي أن تخلقها... ففي كل شيء توجد عناصر لم تكتشف بعد، لأننا اعتدنا أن نستعمل أعيننا في نطاق ذاكرة الناس الذين سبقونا في النظر إلى ذلك الشيء، إن أبسط الأِشياء تنطوي على نقطة ما مجهولة فيها، فلنبحث عنها، من أجل أن نصف ناراً تشتعل أو شجرة في حقل، ينبغي لنا أن نقف أمام تلك النار.
قدمه فلوبير إلى المجلة الأدبية الفرنسية التي نشرت أولى قصائده عام 1879، وكتب عنه بأنه كتب مسرحية «تاريخ الأزمنة القديمة»، وهو يبشر بمستقبل باهر، أعجب فلوبير بقصته الطويلة «كتلة الشحم»، وهنأه عليها معتبراً أنها جوهرة الإنتاج الخالد، وفي نيسان 1880 صدر ديوانه الشعري الأول والأخير، وقد أهداه إلى صديقه وأستاذه فلوبير، لكنه لم يفرح به فقد مات فلوبير بعد نشر الديوان بأحد عشر يوماً بسكتة قلبية. لم يستسلم موباسان لأحزانه، بل انغمس في عالمه الإبداعي وازداد إبداع قصصه، وبعد ثلاث سنوات، نشرت صحيفة جيل بلان له قصته الطويلة «حياة امرأة» ضمن حلقات متسلسلة، فازداد نشاط موباسان القصصي في 1884، وكتب قصة «حبيب القلب» التي أثارت ضجة الصحافة في باريس إذ اعتبرتها تشهيراً بالصحافيين الذين شبههم بالعاهرات ويبتزون المال بالتهديد.
لعل موباسان هو أول من كتب القصة القصيرة في شكلها الحديث المتكامل العناصر الفنية، قبل ذلك الوقت كان مارك توين وإدغار آلان بو يكتبان قصصاً، لكنهما لم يهتديا إلى العناصر الفنية، فقد جعل موباسان القصة القصيرة لا تحتاج إلى الوقائع الخطيرة والخيال الخارق، بل يكفي أن يتأمل الكاتب في الأحداث العادية والأفراد العاديين لكي يفسر الحياة ويعبر عن خفاياها من خلال موقف ما أو لحظة ما.
لم يكن موباسان فريداً في نظرته، فقد كان ينتمي إلى مدرسة العصر الطبيعيين أمثال إميل زولا، وفلوبير الذين حاولوا تصوير الحياة في كتاباتهم تصويراً واقعياً بكل دقائق الحياة وتفاصيلها، إلا أن موباسان كان يختلف عن هؤلاء في شيء واحد، فهو يعتقد أن الرواية لا تصلح للتعبير عن هذه الواقعية الجديدة التي ترى في أن الحياة لحظات عابرة قد تبدو في نظر الرجل العادي لا قيمة لها، لكنها تحوي من المعاني قدراً كبيراً، وكان كل همه أن يصور هذه اللحظات وأن يستشف ما تعنيه، لكنها قصيرة ومنفصلة ولكل منها معناها المعين، فكيف يمكن أن تحويها رواية واحدة؟ فاهتدى إلى الحل، هو أن هذه اللحظات العابرة القصيرة المنفصلة، لا يمكن أن تعبر عنها إلا بالقصة القصيرة، وكان هذا من أهم الاكتشافات الأدبية في عصره، لا لأن القصة القصيرة لا تلائم مزاج موباسان وعبقريته بل لأنها تلائم روح العصر كله، فهي الوسيلة الطبيعية للتعبير عن الواقعية الجديدة التي لا تهتم بشيء أكثر من اهتمامها باستكشاف الحقائق من الأمور الصغيرة العادية المألوفة، لذلك كان موباسان جديراً بأن يكون «أبو القصة القصيرة» في العالم كله.
القصة القصيرة لدى موباسان، لا تعنى بنقل الخبر، بل تقوم بتصوير حدث متكامل له وحدة، ولأجل أن تتحقق للحدث وحدته يجب ألا يقتصر على تصوير الفعل من دون الفاعل لأن الفعل والفاعل والشخصية والحدث في القصة شيء واحد لا يمكن تجزئته، فإذا اقتصر التصوير على الفعل وحده لما استطعنا أن نصور الحدث كاملاً.
مرض موباسان، ونقل إلى باريس في قميص المجانين، ولم تقو والدته على زيارته خشية أن تنهار عندما تراه في هذه الحال، وازدادت حالته سوءاً إلى أن توفي في العام 1893، وأسدل الستار على حياته المأساوية، فترك وراءه 250 قصة قصيرة وست روايات وديوان شعر وحيد، ورثاه زولا بهذه الكلمات: كان عليه أن يظهر ويروي قصصه ويستحوذ على إعجاب وتعاطف القراء في هذا الوقت تحديداً.