ذلك المشهد المتنوع والمعقد بطريقة غير مسبوقة ما يمكن اعتباره أيديولوجيا سائدة تفرض أنواعاً جديدة من المحرمات الثقافية التي لا يجرؤ أحد على الاقتراب منها؟! هل هناك حقاً مناطق محرمة في الثقافة الأدبية
المعاصرة يعتبر مجرد ولوجها من قبل أي ناقد أو كاتب انتحاراً؟! هل يستطيع مثلاً كاتب أو ناقد يتمتع بسوية معرفية أو إبداعية مرموقة أن يلغي ببساطة عقوداً من التطورات والثورات الثقافية ليقول وبشكل مباشر إن لون بشرة الكاتب أو الكاتبة عامل حاسم في تحديد أهمية النص الأدبي وقيمته الفنية؟ أو أن يقول مثلاً إن ذكورة الكاتب أو أنوثة الكاتبة هي سمة تحدد القيمة الفنية للعمل الأدبي؟!
لقد فعلها ف س نيبول الحائز على نوبل للأداب والذي يعتبر أحد أهم أدباء العالم المعاصرين حيث قال في لقاء معه في لندن الأسبوع الماضي إنه لا يعتقد بأن أي امرأة يمكن لها أن ترتقي إلى مستوى كتابته الإبداعية
بما في ذلك جين أوستن! ويضيف نيبول أن المرأة تكتب بطريقة عاطفية وأنه يستطيع تمييز ما تكتبه النساء من مجرد قراءة مقطع واحد أو مقطعين من أي نص! ولماذا؟ لأن المرأة تعبر في كتاباتها عن رؤية عاطفية محدودة للعالم ناتجة عن واقع وجودها الحياتي حيث تنعكس عدم سيطرتها الكاملة على عالم البيت في كتابتها من خلال حساسية خاصة تفتقر إلى ما يمكن للرجل الكاتب أن يعبر عنه.
لقد اعتادت الأوساط الأدبية على تصريحات ف س نيبول الإشكالية وعلى آرائه التي كثيراً ما أثارت جدلاً ونقاشات حادة في الصحافة الثقافية العالمية، لكن تصريحاته الأخيرة فيما يخص الكتابة النسوية قد استفزت بشكل كبير العديد من النقاد والمتابعين حول جديتها وقيمتها ومعناها في عصر تحولت فيه الهوية الجنسية إلى عنصر ثراء وتنوع في الكتابة الإبداعية وإلى أحد المكونات العميقة والجوهرية في النص الأدبي. لم تعد الأنوثة في النص وفق الخطاب الثقافي المعاصر مجرد معطى مستقر سياسياً أو اجتماعياً، بل أصبحت حساسية جمالية تنتج رؤية خاصة للعالم، وهي بذلك تندرج ضمن الخصائص الأسلوبية للنص ذاته. وكما تقول الناقدة رويث ي جنكنز إن الصوت الأنثوي الذي يقع خارج السرديات الخطية التقليدية للتاريخ هو الأقدر على التعبير عن تلك التجارب التي لا يمكن للبنية السردية التقليدية مقاربتها. فالصوت الأنثوي ينتج خطاباً لا يعارض التاريخ الرسمي فقط، بل يوفر إمكانية كتابة تاريخ مغاير عبر ولوج فضاءات المحرم و المسكوت عنه.
إن ما يثير التساؤل في تصريحات نيبول ليس مصداقيتها المعرفية كما ورد في العديد من المقالات والردود حولها في الصحافة الثقافية والتي لم تخلُ من نقد حاد وصف الكاتب بالغرور والسطحية. إن ما يثير التساؤل حقاً هو واقع وملامح الثقافة الأدبية المعاصرة. هل تعبر هذه الثقافة عن ذاتها بحرية بعيداً عن الأيديولوجيا وسيطرة المنظومات الإعلامية السائدة أم أنها تخضع لها وتعبر عنها؟ وهل ذلك التوافق الذي يصل إلى حد الإجماع حول منظومة القيم والمفاهيم المميزة للخطاب الثقافي المعاصر حول الحرية والمساواة والتعددية الثقافية وغيرها، هل هو واقع أم مجرد خطاب مراوغ تحكمه عوامل قسرية ورقابة ذاتية لا تستطيع تجاوز الإجماع المعلن! وبمعنى آخر، هل يعبر نيبول بتصريحاته هذه عن رؤية فردية نرجسية واستعراضية كما أشار البعض أم أنه في حقيقة الأمر يعبر عن وعي جمعي مكبوت وعن قناعات مستترة في الذهنية العامة في الحياة الأدبية عموماً؟!
يبدو هذا السؤال على درجة كبيرة من الأهمية في سياق الراهنية والكثافة في الإنتاج الأدبي النسوي في العالم عموماً. وبصرف النظر عن المرجعيات الأيديولوجية التي تحكم النظر إلى وضع المرأة الكاتبة ضمن المؤسسات الأدبية لا بد من التساؤل حول استقلالية الحياة الأدبية عن المنظومات الاجتماعية السائدة وقدرتها على إنتاج ثقافة مغايرة للذهنية التقليدية. لقد حاولت الدراسات الثقافية التصدي لهذا الموضوع عبر كشف الآليات الفاعلة في الانتاج الثقافي وعبر مقاربة النص من وجهات نظر جديدة لا تكتفي بجمالياته المعزولة عن الواقع الثقافي. وقدمت النظرية السردية المعاصرة أيضاً مقاربات يمكن لها أن تساهم في إنتاج خطاب جديد حول موضوع الذكورة والأنوثة في الكتابة الأدبية. وفي هذا السياق إن ما يبدو عاطفياً أو غير عقلاني أو محدوداً في الكتابة النسوية لكاتب مثل نيبول على سبيل المثال يشكل بالنسبة إلى بعض المفكرين والنقاد خصوصية فريدة تمنح السرد النسوي أفقاً لا يتوفر لغيره. وعلى سبيل المثال ترى الناقدة الأمريكية رويث ي جنكنز أن حضور الفانتازي والخرافي في بنية السرد أسلوبية مرفوضة ومهمشة من قبل المؤسسة الأدبية الرسمية في أوربا بصرف النظر عن جنس الكاتب. ويعبر هذا عن منظومة القيم الأساسية في الثقافة الغربية التي تفضل الواقعية، والتي تنزع نحو المفهوم والمحسوس وتهمش الغامض والفانتازي.
وفي دراستها للخطاب السردي عند مجموعة من الكاتبات المعاصرات أمثال ماكسين هونغ كينغستون وإيزابيل الليندي ترى جنكنز أن الفانتازي يرتبط بشكل حميم بالصوت الأنثوي. يشكل الفانتازي في هذا الخطاب مرجعية لكتابة تاريخ مغاير وللبحث عن هوية خارج أطر السلطوي الراهن والتاريخي. وتطرح هذه المرجعية بشكل دال على أنها تحد حقيقي للخطاب الأيديولوجي من خلال الربط بين الفانتازي والخرافي وبين القيم الثقافية والتجارب الحياتية. وكالحال مع الواقعية السحرية، ينتج توظيف الفانتازي والخرافي عالماً لا يمكن استيعابه من قبل نظام واقعي من حيث القيم الشكلية. وهنا تختلف كل من الليندي وكينغستون عن كتاب الواقعية السحرية الرجال من حيث أن الكاتبتين تربطان السحري والخرافي بالتجربة الأنثوية تحديداً. وبهذه الطريقة يشكل كل من الجنوسة والقومية مركباً في هوية الكاتبة المعقدة التي تسعى إلى التحقق في صوت خاص. فمن جهة تنتج هذه الهوية الثنائية نصاً يواجه إشكالية في الاعتراف بشرعيته في المؤسسة الأدبية الغربية الرسمية، ومن جهة أخرى يواجه نص كهذا إشكالية أخرى في خطر تهميشه من قبل الواقعية السحرية واعتباره مجرد تجل لقصص الشرق الخرافية وعلامة من علامات الآخر بالمعنى الاستشراقي التقليدي. وكنتيجة لهذه التحديات التي يواجهها هذا النص المغاير يجب في أي عملية قراءة جدية اعتبار الهوية الأنثوية عنصراً رئيساً في إنتاج الصوت الأنثوي في الخطاب السردي. وهكذا فإن توظيف الفانتازي في السرد من قبل كاتبات معاصرات يتحقق فنياً باعتباره تحدياً للخطاب الذكوري السلطوي بكل تجلياته الاجتماعية والثقافية والسياسية مع التأكيد أن دلالات الأنثوي في هذا التحدي تتحقق من خلال تصوير الشرط الإنساني للمرأة كوجود فردي قادر على تقديم تجارب مغايرة، وليس فقط كتنميط ثقافي أو اجتماعي.