تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


الديمقراطية وضبط الذات

ملحق ثقافي
7 /6 / 2011
د. حسين جمعة

تمر بنا بين الفينة والأخرى استحقاقات ديمقراطية تجعل الوعي بثقافتها أمام المحك العملي ولاسيما حين تمارس الجماهير أو المؤسسات

السياسية والنقابية عمليات الانتخاب المباشر لقياداتها المتسلسلة. فالممارسة الديمقراطية تعدُّ معياراً يؤكد ارتقاء الناس أو تخلفهم، ويبين مدى قدرتهم على اختيار من يعبر عن همومهم وقضاياهم وطموحاتهم وآمالهم، بوصفها ملتصقة بالهمّ الوطني والقومي وبالمبادئ الخلقية السامية.‏‏

وقد تبين لنا ـ انطلاقاً من دراسة الواقع العربي على الصُّعُد كلها، ـ أن الديمقراطية الشعبية ترتقي بالوطن والمواطن... ولكن لا بدّ من تنفيذ نظامها الدقيق لتنمية الحرية بما يحقق للمواطن حرية التعبير والرأي والانتماء والاعتقاد والاختيار والاجتماع شريطة ربطها بقيم الانعتاق من العصبيات العائلية والولاءات العشائرية والقبلية، والإقليمية والمذهبية والطائفية.‏‏

إذاً، فالديمقراطية تستند إلى طبيعة الوعي الثقافي والسياسي والمسؤولية التي يتصف بهما الإنسان ـ أو هكذا ينبغي له ـ للوصول إلى تحقيق المساواة والعدالة بين أبناء المجتمع وفق مبدأ الكفاءة والقدرة والنزاهة والمعرفة، ما يعني أن ممارسة الديمقراطية تبتعد عن الانحراف إلى المطامع الذاتية والمنافع الآنية، ولا تقع في مطب الجهل والتخلّف... أي إن الديمقراطية ضرورة حتمية، وآلية علمية وموضوعية لقلب الواقع الفاسد وتحرير المجتمع العربي من جميع الرواسب المرضية والمنحرفة والمتخلفة بوصفها رواسب تضعف الوطن والأمة.‏‏

ولهذا فالمطلوب دائماً وأبداً من كل مواطن شريف، أن يتحلى بأعلى درجات وعي الفكر الديمقراطي والمسؤولية للالتزام بقيم المواطنة التي تحقق إقامة التوازن بين الذات وممثليها من جهة، ـ وقد قيل كما تكونوا يولَّ عليكم ـ ومن ثم إقامة التوازن بين المجتمع والوطن من جهة ثانية، وبين السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية من جهة ثالثة، وصون السلطة القضائية واستقلالها من جهة رابعة.‏‏

ولا مراء لدينا في أن قطرنا الحبيب قد مرَّ بتجارب كبرى في ممارسة الديمقراطية منذ خمسينيات القرن العشرين، وأرسى حسه الأصيل فيها وأيقظ الضمير الإنساني للربط بين الفرد والجماعة التي ينتمي إليها، ولاسيما حين كان يحرص على اختيار ممثليه للقيادات والسياسية والنقابية والثقافية من ذوي النباهة والكفاءة والقدرة على المبادرة، والتحلي بالصفات الخلقية، والقيم المعرفية والعلمية و... وكان يرى أن كل من يتخلف عن الانخراط في صميم الرؤى الحضارية للديمقراطية يصبح عدواً لذاته ولحزبه ووطنه وأمته.‏‏

وبناء عليه فإن تطوير البنى الذاتية والموضوعية، لا يتحقق إلا من خلال عملية تغيير طوعية داخلية مبتكرة تواكب قوانين الحياة ولا تتخلى عن القيم النبيلة. وهذا يوحي بأن الديمقراطية أداة للتغيير، ما يفرض علينا جميعاً أن نجعلها مالكة لصفة الديمومة التي تلبي متطلبات الروح الاجتماعية التي تواجه الدعوات المشبوهة والأفكار المعادية. وهذا يثبت أن الديمقراطية الحق وسيلة مُثلى للوصول إلى الوطن الحضاري والمتقدم، وهي وسيلة أساسية للأحزاب الثورية كي تحافظ على كينونتها الأصيلة، والموضوعية. لهذا يصبح من الواجب علينا خلق الظروف المناسبة لتحقيق روح الديمقراطية في حياتنا وتطبيق مبادئها وآلياتها، في كل مرة نمارس فيها استحقاقاً ديمقراطياً... إن الهجمات الشرسة التي نواجهها في الداخل والخارج ـ ولا سيما الهجمة الصهيونية العنصرية الاستيطانية الحاقدة ـ تفرض علينا العمل المخلص والدؤوب لممارسة نظام ديمقراطي راقٍ يليق بانتمائنا الوطني ويرتقي إلى مستوى التصور المنشود لمفهوم الحرية التي نؤمن بها، على أن ينبثق هذا النظام من التحلي بالشروط العلمية والموضوعية التي يتصف بها كل مواطن ومن إيمانه العلمي الصادق بالثقافة الديمقراطية وهي التي تدل على إنسانية الإنسان ومسؤوليته الخلقية والوطنية في اختيار ذوي المبادرة والكفاءة والمعرفة بعيداً عن تلك العصبيات والرواسب التي تسود بين ظهراني المجتمع إبان الأزمات الكبرى.‏‏

إن المسؤولية الوطنية والخلقية تجعل إيصال صُنَّاع الوهم وتجار الكلام إلى مرتبة المسؤولية والقيادة خيانة وطنية وإنسانية. فالمسؤولية الواعية، والمنطق الإنساني السديد يرمي المرضى بالعائلية والعشائرية والمذهبية والطائفية والشللية والعرقية في وهادٍ سحيقة ويرفضهم ويرفض أساليبهم، ولا يؤمن ببقية العناصر المضافة إلى قلة الخبرة وضآلة التجربة، ويزدري أولئك الذين يتصفون بالحركات الهزيلة، أو التابعين لحاجاتهم وغرائزهم؛ أو أولئك التابعين والقابعيْن في جلباب الآخرين... فإذا كانت الديمقراطية غير معزولة عن الواقع المعيش فإنه ينبغي علينا ألا نجعلها رغبة ذاتية خالصة، بل علينا أن نجعلها رغبة خلقية ومسؤولية وطنية، وتطلعاً نضالياً يرتبط ارتباطاً عفوياً وعضوياً بمصالح الجماهير الشعبية وحاجاتها ويشجع ذوي الكفاءات والخبرات والمعرفة على الانخراط في العمليات الانتخابية، وطالما عزفوا عن ذلك نتيجة سقوط الانتخابات في حالات ارتكاسية من الولاءات الضيقة المريضة.‏‏

لهذا كله لا بد لكل منا من أن يتصف بالوعي، والمسؤولية الفاعلة للتمسك بمنظومات الديمقراطية التي تتفاعل مع التقدم والجدية والنزاهة والموضوعية، والابتعاد عن العناصر السيئة والمتخلفة والرواسب المرضية وفق قول الشاعر القديم:‏‏

لا تنه عن خلق وتأتي مثله‏‏

عار عليك إذا فعلت عظيم‏‏

فالديمقراطية الحق تتركز في اقتدار المواطن على ضبط ذاته وفق الأسلوب العلمي والموضوعي والخلقي لاختيار من يراه مؤهَّلاً لتمثيله في كل مكان يصل إليه فهل هو قادر على ذلك؟ هذا هو المأمول منه لتحقيق العدل والمساواة والتقدم والاتقاء.‏‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية