لو قُيِّض لأحدنا التمتع بضمير يقظ غير منحاز, والتحلي برؤية ثاقبة استشرافية موضوعية فما عساه يقول, وهو يراقب المشهد الثقافي الذي يسود ساحاتنا الثقافية بكل أطيافها؟ لو تمكن من متابعة جداول النشاطات المنعقدة هنا وهناك, وأسماء المشاركين من أدباء ونقاد ومحاضرين, ما عساه يكتشف؟ لو كان مثلي يشارك أحياناً في بعض تلك المآزق, لما تردد في دعمي لاتخاذ قرار طالما وعدت باتخاذه إن استمر الحال على ما هو عليه ..
إذاً هاأنا أعلن أمام الجميع, اعتذاري عن المشاركة في أي أمسية قادمة, إلى أن يشاء المستقبل أمراً آخر! أعلم أن ذاك لن يؤثر سلباً على أي شيء, أو أي أحد, لكنه سيعيد لي بعضاً من احترامي لذاتي ولما أدّعي أنه أدب أكتبه, بعد أن بدوت كبلهاء تعتلي منبراً اصطف أمامه مشاركون ثلاثة, وقريبا أحد المشاركين, ومدير المركز ومساعدتاه, ورجلان حمل أحدهما مفكرة وجلس في ركن- هادئاً أكثر من الموت- بصراحة لم أكن بحاجة لهذه القشة التي قصمت ظهري لأتعظ,
ففي مرات كثيرة ماضية عدت يائسة, لكنه الخجل الذي تحكم بعقلي, فقادني في طريق لم أكن مقتنعة بها منذ أمد, وانتقاماً لنفسي من ذلك الموقف الذي تمنيت فيه ألا أتفوه بحرف واحد, ألقيت قصائد قصيرة أكاد أجزم أن أحداً من المتواجدين لم يسمع نصفها, وقد اخترتها من ذلك النوع الذي يصعب تلقيه من قراءة أولى, لكنني عدت أدراجي متخمة بألف وخمسمئة ليرة, وقبلها ظهر اسمي في أخبار النشاطات الثقافية التي تنشرها جرائدنا المحلية, فهل يحق لي التشكي بعد ذاك!
لا يعتبر الحديث عن عزوف الجمهور عن المراكز الثقافية جديداً, بل بصراحة غدا مملاً, ومع ذلك تستمر الأمور على ما هي عليه وبشكل رقراق هادئ لا ينذر أحداً بكارثة حلت, وبدأنا نجني أشواكها! ً انطلاقاً من ساحة الموضوعية التي أحاول الوقوف ضمن حدودها, سأقول: إن اللائمة تقع على الأدباء أنفسهم وأنا مقتنعة جداً بهذا- وقبل أي شيء لن أستثني نفسي من أي تهمة- إن ما يقدمه معظم الأدباء لا يعدو كلاماً موزونا شعرياً, أو حكاية لا تصمد أمام أي من حكايات شهرزاد! فلم على الجمهور أن يدع فضائيات التسلية والترفيه أو المماحكات السياسية, ليأتي وينصت دون انتباه أو اهتمام, فيغفو بعضهم وأنا هنا لا أبالغ أبداً! لن تفوتني الإشارة إلى استهتار الجمهور وفي كل الأمسيات التي حضرتها, أو شاركت فيها, فبين رنين موبايل هنا ورنين آخر هناك, ثمة من يتهامس, أو يرد على هاتف يبدو مصيرياً وإلا لتمكن من تأجيله! وكثير من الأدباء لا ينجو من هذا أيضاً!
اسمحوا لي الآن أن أمارس بعض التنظير عليكم: هل نحن مثقفون, وما المعيار الذي يجزم بذلك, غير شهادات أصدقائنا, وأهلنا المعجبين بكل كلمة نتفوه بها ؟
قسّم أنطونيو غرامشي هؤلاء الذين يمارسون الوظيفة الثقافية في المجتمع إلى نموذجين: الأول مثقفون تقليديون ( معلمون, رجال دين, إداريون... )
ممن يواصلون فعل الأشياء نفسها من جيل إلى جيل, أما النموذج الثاني فهم المثقفون العضويون المرتبطون مباشرة بالطبقات أو الشركات التجارية التي تستخدم المثقفين في تنظيم مصالحها لاكتساب سلطة أكبر والفوز برقابة أوسع... اعتقد غرامشي أن المثقفين العضويين يسهمون بفعالية في المجتمع, أي يناضلون باستمرار لتغيير العقول وتوسيع الأسواق بخلاف النموذج التقليدي, في مقابل ذلك رأى « جوليان بيندا» أن المثقفين لا يكونون حقيقيين, إلا عندما تحركهم عاطفة ميتافيزيقية ومبادئ الحقيقة والعدالة النزيهة ويشجبون الفساد, ويدافعون عن الضعفاء ويتحدون الظلم والجور, وأنهم لا يسعون وراء أغراض نفعية مبدئياً, بل يسعون لامتلاك مزايا غير مادية ولهذا السبب يقولون بطريقة يقينية: مملكتي ليست من هذا العالم!
أما تيودور أدورنو فكتب في سيرته قائلاً: ليس أمل المثقف في أن يمتلك تأثيراً على العالم, بل أن يكون ثمة أحد ما, في مكان ما, يوماً ما, يقرأ ما كتب تماماً كما كتبه, وقال: من لم يعد له وطن تصبح الكتابة مكاناً للعيش له.
أخلص إلى بعض تعريفات وأقوال للمفكر إدوارد سعيد, إذ رأى أن المثقفين الحقيقيين نخبة كائنات نادرة جداً, ما دام ما يدافعون عنه هو المبادئ الخالدة للحقيقة والعدالة التي هي ليست من هذا العالم بكل ما للكلمة من معنى,وأن من الضغوط التي تتحدى إبداع المثقف وإرادته التخصص, فكلما ارتقى المرء في النظام التعليمي اليوم ازداد اقتصاره على مجال ضيق من المعرفة نسبياً, ثم هناك الخبرة وعبادة الخبير ونزعة الاحتراف... يفضل سعيد أن يبقى المثقف هاوياً تستطيع روحه أن تدخل وتغير الروتين الحرفي المجرد. ويؤكد أن إحدى مهام المثقف هي السعي لتحطيم التصنيفات المبسطة والمختزلة التي تحد من التفكير والتواصل الإنساني كثيراً...وأن المثقف فرد ذو دور اجتماعي محدد في المجتمع, لا يمكن اختزاله إلى مجرد حرفي بلا ملامح ومجرد عضو كفء في طبقة يقوم بعمله وحسب, وأنه فرد وهب القدرة على تقديم وتجسيد وتوضيح رسالة, أو رؤية, أو موقف, أو فلسفة, أو رأي للناس, ولأجلهم, ولهذا الدور مخاطره, ولا يمكن للمرء أن يلعبه دون الشعور بأن مهمته هي طرح الاسئلة المربكة ومواجهة التزمت والجمود لا توليدهما... لا شيء في نظري أكثر استحقاقاً للشجب من تلك الطباع لدى المثقف التي تغري بعدم المواجهة خاصة النأي عن الموقف الصعب والمبدئي الذي تعرف أنه هو الموقف الصحيح...
وفقاً لكل تلك المعايير والتعريفات, هل يمكننا أن نواجه أنفسنا الآن بالسؤال التالي: كم مثقفاً بيننا؟