الحرس الوطني أداة للقمع السعودي
فمنذ ستينات القرن الماضي، أخذ الحرس الوطني السعودي بالتحول من ميليشيا قبلية أوكلت إليها مهمة الجهاد في بداية تأسيس المملكة إلى قوة شبه عسكرية حديثة، تماثل في إمكانياتها وقدرتها قوى الجيش والأمن الأخرى.
وفي سبيل الحفاظ على سلطته، أقدم النظام السعودي على تشكيل قوى متعددة يقودها أمراء تحسبا من حدوث انقلابات قد يقوم بها الجيش النظامي على غرار ما حصل في مصر والعراق في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي.وكان لفشل المحاولات الانقلابية المتعددة التي قام بها ضباط الجيش السعودي في أواخر الستينيات الأثر البعيد في قيام العاهل السعودي فيصل بتشكيل فصائل عسكرية متعددة لتأمين حماية البلاد بدلا من تشكيل جيش قوي وموحد.
وإزاء هذا الواقع، أصبح الحرس الوطني السعودي في عهد الملك عبد الله أكبر قوة يعتمد عليها فضلا عن كونها توفر أفضل العلاقات مع العشائر في السعودية. وأوكل أمر قيادتها إلى ابنه متعب الذي تولى هذا المنصب منذ ذاك الحين حتى قيام الحملة الشرسة التي نفذها محمدبن سلمان على جميع الأجهزة السعودية، بما في ذلك الجيش، وقوى الأمن، والحرس الوطني السعودي حيث تم من خلالها التخلص من ابن عمه الأمير متعب الذي يتولى قيادة الحرس الوطني.
في ضوء غياب التحدي الحقيقي أمام محمد بن سلمان من أمراء يفتقرون إلى ميليشيات تتبع إليهم ويمكنهم الاعتماد عليها، أخذ الأمير محمد يسعى إلى الحد من سيطرة ابن عمه على الجهاز الأمني الأخير الذي من المحتمل أن يقوده إلى تقويض حكمه. لكن ما يثير الاستغراب هو انتظاره كل هذه المدة لتنفيذ ما كان يدور في خلده.
تطهير غير مسبوق
منذ تسلم محمد بن سلمان السلطة عام 2015والتوقعات تدور حول إعفاء متعب من منصبه على غرار ما فعل بابن عمه الأمير محمد بن نايف، الذي تمت إقالته ووضعه تحت الإقامة الجبرية في شهر تموز. ومن ثم بدأ محمد بن سلمان بتطهير غير مسبوق داخل العائلة الحاكمة وبين كبار الأمراء من الجيل الثاني الذي يمثلون خطرا بالنسبة إليه ولحكمه في المملكة. وفي الوقت الراهن، يعتبر الحاكم الفعلي. ولن يمضي طويل وقت حتى يتولى الحكم بشكل معلن، وسيتحقق ذلك عند تخلي والده بطواعية عن الحكم أو اضطراره للخضوع إلى إرادة ابنه الشاب. إذ ما أن تم إقصاء متعب حتى بدأ محمد بن سلمان يوجه انظاره إلى الأمراء الذين ينعمون بالمال تحسبا من تشكيلهم امبراطورية مالية لها قوتها ونفوذها.
منذ الساعات الأولى لصدور المرسوم الملكي القاضي بإنشاء لجنة مكافحة الفساد برئاسة محمد بن سلمان جرى توقيف 11 أمير ووزراء واحتجازهم.وبلغت عملية التطهير المحسوبة والمتعمدة أعلى مستوى لها وأفضت إلى زعزعة حالة السلم إبان الساعات الأولى من الليل.
لم يذكر أسماء الأمراء الذين تم احتجازهم في الإعلان الرسمي السعودي، لكن المستثمر البليونير الأمير وليد بن طلال كان من بين أولئك المحتجزين، الأمر الذي سيحدو بالأمراء الأثرياء إلى تسخير ثرواتهم بأكملها بهدف تحدي حكم محمد وذلك برعاية من المعارضة في الخارج وتغطية وسائل الإعلام الناقدة للسياسات الاقتصادية والاجتماعية التي ينهجها بن سلمان.
لكن من دواعي الاستغراب أن يعمد الأمير محمد بن سلمان إلى إقالة وزراء سبق أن عينهم هو ذاته بذريعة محاربة الفساد، حيث تم إقصاء عادل فقيه وزير الاقتصاد ليتسلم حقيبته محمد التويجري الذي ينهج إلى الخصخصة والسعودة التي تتماشى مع الخطط الاقتصادية التي أعدها الأمير.
وزاد الطين بلة في تلك الليلة ما انتاب سكان الرياض من الذعر جراء سماعهم صوت انفجار ضخم، تبين فيما بعد بأنه صوت صواريخ بالستية انطلقت من اليمن وكانت موجهة إلى مطار الرياض. وقد أعلنت السلطات بأنه تم اعتراض الصاروخ ولم يفض إلى أية إصابات.
ولا شك بأن ما حدث يشكل دليلا على فشل ثلاث سنوات من الحرب التي قادها محمد بن سلمان الذي أوكلت له وزارة الدفاع وتم تنصيبه كولي للعهد.
وعلى الرغم من الحملات التي تشنها الطائرات السعودية على اليمن منذ نيسان 2015 بذريعة حماية الحدود الجنوبية للسعودية، نجد الصواريخ اليمنية باتت قادرة على الوصول إلى قلب العاصمة السعودية. لكن الصواريخ البالستية التي تم إطلاقها لم تعطَ ما تستحقه من اهتمام نتيجة للإعلان عن عملية التطهير الواسعة المفاجئة التي جرت على أعلى مستوى. وربما سيكتنف محمد بن سلمان شعورا بالأمان بعد إقالة أبناء عمه المنافسين له في الحكم، ومنع الآخرين من السفر، واحتجاز الباقين في فنادق الخمس نجوم في الرياض تحت حراسة أمنية مشددة.
وفي مختلف الأحوال، فإن الشعور بتحقيق الأمان من خلال اتخاذ إجراءات ذات خطورة عالية ربما لا تكون ملائمة الوضع الاوتوقراطي للقائد الجديد، الذي ثبت عدم تسامحه حتى مع أولئك الملتزمين الصمت. ذلك لكونه يرغب في أن يرى الدعم العلني لخطته من قبل الجميع.
يتوجس أولئك الذين أحجموا عن تقديم الدعم العلني والتصريحات المؤيدة خيفة من الاحتجاز، بشكل يماثل ما سبق وأن ما قام به الأمير محمد عندما احتجز عدداً من رجال الدين لمجرد التزامهم الصمت حيال الأزمة القائمة مع قطر.
من المؤسف أن نشهد مملكة متقدمة اقتصاديا تتخذ من الطعن بالظهر أداة في التطهير على أعلى مستوى، خاصة في ضوء عدم وجود قضاء مستقل يمكنه التعامل مع قضايا الفساد، فضلا عن عدم وجود مجلس ملكي يمنع هذا الأمير المتهور من ارتكاب الحماقات، وليس ثمة معارضة منظمة موثوقة يمكن أن تردعه عن غيه.
إزاء الوضع القائم، تلوح في الأفق أعمالا للعنف قد تعم أرجاء المملكة، لاسيما في ضوء وجود أشخاص لديهم التعطش لارتكاب الأعمال الوحشية لمجابهة حكم بن سلمان الاوتوقراطي الذي يكم أفواه الجميع حتى أبناء عمومته.
لقد كانت المملكة تدار من قبل العديد من الأمراء الكبار، أما الآن فقد أصبحت تقاد من قبل محمد بن سلمان الذي اعتبر البلاد ساحة له يعبث بها وفقا لأهوائه.