الفرح بالأمان يلتمع في عيون المستقبلين، والشباب يضج تحت القمصان الحمراء والهلال يتلألأ عليها، تحت أشعة شمس تبعث الدفء في جسدي المرتجف؛ من فرح تآكل مني في قسرية الحرمان من أرض جذوري، ومنبت طفولتي الأولى وعشقي ..
(رضا والله وراضيناك) أغنية بادرني بها المذياع صبيحة العودة إلى دمشق، لأننا لم نسمع مذياعاً ولا تلفزة منذ أيام فلا بث يصل إلى هناك. حقيقةً هي أجمل هدية قدمها حماة الديار للوطن، أسعدنا بالرضا بإهدائه لنا تحرير دير الزور.. وأي هدية أقيم منها.
وتكمل الأغنية كلماتها ـــ كافي لا تزوّدها، والله لو ندري ما زعلناك ـــ قسماً لم أزوّدها.. ولكن عندما أجد باب بيتي مجنزراً، وبعد فتحه لا شيء إلا جدران قائمة.. تعب العمر مسروق، ومكتبة العمر سوداء.. هل يكفي ممن سرق وحرق..الاعتذار؟
تنشدني الأغنية الثانية وأنا أخط لكم وجعي (لو تعرف بغيبتك شو صار، طعم الثلج صار نار) كأن الأبنية الشاهقة التي لثم سطحها الأرض، تودعني أحاسيسها المهشمة.. منازل أهلي بلا ملامح.. أطلال ينعق فيها الخراب.. الأرض تركها الإرهاب مُلَغَّمَة..
كل الحارات تبكي أهلها.. غريب، مشرد، مفقودٌ، ورهين الإرهاب، أجساد مزقتها القذائف، وأخرى تنهشها الهوام والجوارح. أما من تحت الأنقاض.. فبلا عدد.. وأرض أينما أردت وضع قدمك تخشى وطأ مثوىً لشهيد.. كذا الحدائق والساحات.
في دير الزور ترى ما لا يرد على بال، ولم يكتب في تاريخ حروب الشعوب. تتجمد العيون حيث تقع.. والعتمة لا يبددها إلا ضوء ( اللدات ).. والماء تحرص وأنت تغسل وجهك أن لا تضيع منه نقطة خارج الإناء؛ الذي تجمعه فيه لتدلقه في الحمام.
الشجر كالح اللون كما الوجوه التي غابت نضارتها، رغم دخول المؤن منذ شهرين وعودة الحياة لهياكل بشرية؛ كانت نماذج درسية لطلاب الطب، ولكنها تتحرك ببطء قاهر، قتلت فيها الحياة إلا بقايا أنفاس، تدخل وتخرج، لتثبت الإصرار على الصمود.
كل خيرات البلاد وصلت الأسواق، وبقايا ليرات في جيوب الناس تجعل العيون تشتهي ولا يمر طعمها في الحلوق إلا ما ندر. الأطفال قضموا الموز بقشره والبعض يرفض البيض لأنه لا يعرفه.. قالت سيدة: «هو يرفض الطعام يطلب البرغل».
غابت طعوم الطعام من أفواه الأطفال.. ترى كم من زمن يحتاجه الصغار لنسيان ما اعتادوه لأربع سنوات؟.. رغم كل شيء تفترّ الثغور عن ابتسامات تهدى للقادمات نساء سورية الصامدات.. من حملن هدية رجل كريم أسبغت أياديه البيضاء خيراً لهم
رغم الحزن العميم.. قصص انتصارات الجيش في فك الحصار، فتح بوابات المدينة الصامدة المحاصرة، وتحرير أجزائها المغتصبة، التي رواها لنا من عَلَتْ رأسه فوق النجوم والسيوف، بعثت فينا الفخر الذي لم يخذلنا يوماً.. ما أعظم نشوة الانتصار..
حماة الديار عليكم سلام، أبت أن تذل النفوس الكرام.. ألف ألف تحية لمن أعادوا الأمان الذي سمعناه تراتيلاً على أوتار الحناجر، يكرره كل من التقيناه. ما يبعث فينا سعادة غامرة.. ونحن نرى الحركة حرة على مساحة جغرافية المحافظة المحررة..
صورة أخرى من الحزن تخترق سعادة الانتصار، تلك التي لا يجرؤ أي مشاهد على الاقتراب للنهي عنها.. تلك التي يسمونها التعفيش.. أيدٍ آثمة تمتد لبيوت مغلقة أو غاب أهلها ولو لأيام قلَّة بسبب القذائف الإرهابية لأماكن أكثر أمناً. حساب وعقاب لا بد منه..
لماذا الصمت عن من أفسدوا فرحة النصر.. لا مبرر أنَّ كثرة أيدي حملة السلاح بحق أو بغير وجه حق، وليس من المقبول أن يقول أحدهم «لنا الأرض ولكم ما فوقها».. لا أيها المحترم.. لا تفسد إنجاز الأباة بترك شرخ في قلوب الحالمين بالعودة إلى بيوتهم.
لابد من عودة كامل الحياة إلى بلد الخير ليعم خيرها الوطن.. لا بد من إنجاز البنى التحتية لعودة من بَقيتْ داره على قيد الحياة، لذا الحفاظ على ما فيها مسؤولية عاجلة.
أما عودة العاملين لإحياء البنى التحتية فتحتاج الكثير من التبصر، في تأمين إقامتهم وإطعامهم، كي لا يهدر الزمن في البحث عن استراحة وتأمين قوت؛ لا يكفي أجره اقتسامه مع أهله المهجرين لعيش يقترب من الكريم أو المستور..
هذا برسم الحكومة والقائمين عليها لتعود شرايين الحياة تتدفق في بلد الخير التي همس في أذني أحد الرجال الأباة صناع النصر حين أودعني جملة أثارت فيَّ شجناً قائلاً: «هل يعقل أنَّ عدونا أدرك قيمة هذه المحافظة الكريمة حين أسماها ولاية الخير
نحن لم نعرف أو نثمن خيرها العميم إلا بعد اغتصابها، فلم تأخذ يوماً حقها كما يجب»، ويردف قائلاً: هذه المرة الخامسة التي أُصاب فيها، وليس من شبر في جسدي إلا وفيه جرح أو شظية أو أثر جراحي.. ولكني آثرت الدفاع عن هذه الأرض الطيبة، أتيتها عريساً لشهرين، ولم أر ابنتي المولودة إلا مرة واحدة.. فرح تشوبه وشائج حزن شفيف..