كل هذا العبث الممنهج بالمنطقة جراء الوعد السرطاني لم يحرك ساكناً عند الحكومة البريطانية، فهي لم تكتف بعدم الاعتذار عن اقترافها هذه الجريمة التاريخية، بل على العكس من ذلك بدت مزهوة بهذا الوعد، وأخذت بالتفاخر فيه والاحتفال به وعدته واحداً من أهم أدوارها الحيوية في التاريخ الذي ساهم ووضع قاعدة إقامة إسرائيل.
وقبل الدخول في تداعيات ومخاطر الوعد المشؤوم اقتطف بعضاً مما جاء في ملف أعدته الصنداي تايمز البريطانية قبل أسبوعين عن هذا الموضوع جاء فيه:
في يوم 31 تشرين اول 1917 خرج عضو البرلمان البريطاني مارك سايكس الذي كان خبيراً في شؤون الشرق الأوسط من مكتب رئيس حكومته الى حيث كان يجلس الزعيم الصهيوني حاييم وايزمان وقال له:
وايزمان: المولود.. ذكر، وكان سايكس تلقى توجيهات من رئيس الوزراء البريطاني يفيد لويد ووزير خارجيته آرثر بلفور بالتفاوض على تصريح بريطاني لصالح خلق وطن قومي لليهود في فلسطين.. وبعد يومين فقط خرج الى العلن المولود الذكر وهو وعد بلفور المشؤوم في 2 تشرين الثاني 1917.
الى ذلك فان الحلم الصهيوني باغتصاب فلسطين، لم يكن وليد تلك الساعة والسنة، بل جرى العمل عليه طويلاً عبر تزوير الوثائق الدينية والدسائس والمؤامرات، وحتى نابليون بونابرت حاول وعمل على هذا الأمر، ودعا يهود آسيا وافريقيا للانضمام الى حملته والتوجه الى فلسطين.
غير ان اتفاقية سايكس بيكو كان له الدور الكبير بإطلاق هذا الوعد، حيث رسخت التجزئة السياسية والجغرافية، وحاولت إنشاء كيانات طائفية هزيلة، ووضعت المنطقة تحت نير الانتداب، وتحديداً سورية الطبيعية التي كانت تعاني من تصدع وتفكك على المستوى الروحي، فما كان من الاحتلال البريطاني - الفرنسي الذي وضع يده على المنطقة بعد هزيمة تركيا سوى تزوير التاريخ واللعب بالجغرافيا وتشجيع النزعات المذهبية والدينية.. وحتى العشائرية، وحققت على هذا الصعيد أكثر من تقدم يخدم خططها الاستعمارية، ساعدها في ذلك غياب الحس القومي وتعاون رجعيات هنا وهناك.
وبالعودة الى الإمبراطورية البريطانية التي غابت عنها الشمس والأخلاق والمبادئ ومات بلفور ها هي وبدون خجل تحتفل بمئوية بلفور، ضاربة عرض الحائط كل المواثيق الدولية، وصامتة عن جرائم الاحتلال الإسرائيلي اليومية بحق الشعب الفلسطيني، والدوافع التي كانت وراء إطلاقها لـ بلفور معروفة، ولعل ابرزها واهمها هو الإنهاك الذي أصابها جراء الحرب العالمية الأولى التي انضمت الولايات المتحدة الأميركية متأخرة الى الحلفاء فيها، ومن الواضح ان في روسيا والولايات المتحدة عدداً كبيراً من اليهود يملكون نفوذاً واسعاً في البلدين من الممكن تجييره لصالح بريطانيا، والآن تمارس ذات السياسة في مجاملة الإسرائيليين وشرعنة اغتصابهم لفلسطين، بغية مساعدتهم لها في حل مشاكلها الداخلية المتفاقمة، ولا عجب في ذلك أليست الأدوات وأساليب القتل التي مارستها بريطانيا خلال فترة انتدابها على فلسطين من تشريد وهدم منازل واقتلاع أشجار وتجريف ارض وفصل عنصري هي الأدوات والطرق التي تستخدمها إسرائيل في ممارساتها اليومية بحق الفلسطينيين والعرب جميعا اليوم.. ناهيك عن الرعاية المادية والتنظيمية التي قدمتها بريطانيا لليهود المهاجرين إلى فلسطين خلال فترة الانتداب؟!
وإذا كنا اليوم نودع مئة عام من بلفور الى ماي -هذه الذكرى الأليمة والموجعة- والتي كانت فيها الظروف ليست في صالح العرب جراء المؤامرات والعمالة من بعض أمراء الظلام والنفط والغاز، بحيث لم تستطع الأمة دفن هذا الوعد المشؤوم وإنهاء مفاعليه، والأنكى من ذلك ظهرت مشاريع ووعود جديدة هي من نسل بلفور، وتتقاطع تماماً مع جوهره الإجرامي، وما يحدث في المنطقة من إرهاب وقتل وتقسيم وإعلان دويلات، لهو دليل قاطع أن أعداء الأمة ما زالوا يتربصون بها شراً حتى اليوم.
إذاً ما العمل لمواجهة بلفور وذيوله وأذنابه وأزلامه، ومتى يتضح الوعي القومي لنسترجع كرامتنا القومية؟
للإجابة على ذلك نقول:
كما كان لهم وعدهم فان للأمة وعدها الصادق وانتصاراتها الكبيرة التي تتحقق اليوم على اكثر من ساحة وميدان، والتي تبشر بنصر كبير يغير مجرى التاريخ ويعيد الحق الى أصحابه، فها هي شموس وعدنا تشرق ومعانيه تتبلور، وعزيمته تشتد ورايته ترتفع كقامات الزيتون والسنديان، وتترسخ كالجبال الراسيات، عبر محور أخلاقي إنساني مقاوم، عقد العزم على دحر المخططات والوعود المشؤومة وهزيمتها بدءاً من سايكس وبيكو وبلفور وصولاً إلى نتنياهو وأمثاله، ومن يسيرون في فلكه الاستعماري الاستيطاني الذي ينتهك حقوق وكرامة الإنسان، لأن ما بني على باطل سيبقى باطلاً ومصيره الزوال والأفول.
*محافظ ريف دمشق