تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


ليلة فقدنا بدورنا

مجتمع
الثلاثاء 12-2-2013
أيدا المولي

لم تنم مدينة السلمية تلك الليلة، مازال صوت التفجير يرج الأمكنة ويهز الشرايين والأوردة، لم تذهب رائحة البارود ولم تغب صور الضحايا ومشاهد من نجا ويبحث عن أمه وأبيه وأخوته وهو خارج من هذا البيت مصعوقاً مدمياً صور الأشلاء.

كارثة حلت بالسلمية في مساء ال 21 من الشهر الأول من سنة 2013 فأردى الإجرام أكثر من ثلاثين مواطناً كانوا يمشون في الشارع العام الذي يعتبر أكثر اكتظاظاً بالسكان فتوقفوا عن الحياة.‏

أكثر من ثلاثين إنساناً قضوا، الأم والأب والأولاد في بيوتهم آمنين في الشارع يشترون من المحلات حاجة الغداء ليوم الغد فأولادهم ينتظرون وجبة طيبة لكن القدر الأعمى حرمهم من كل الحياة.‏

الإرهاب المفرغ من الدين والأخلاق والإنسانية صنع ثلاثة ونصف طن من المتفجرات وضعهم في سيارة واقتحم بها مقراً لشباب كانوا يسهرون الليل لمنعه من التسلل إلى مدينتهم لكنه كان شيطاناً أمرد خطط ونفذ في ساعة مدروسة وأودى بحياتهم وحياة كل من جاورهم.‏

مرّ على السلمية، ألق الأموريين وحضارة الآراميين وتنازعتها أيادي الفرس والإغريق ورأى فيها الاسكندر عبق بلاد اليونان، ارتسم عصر الرومان في أقنيتها التي شكلت شرايين المياه في جسدها ومن أبرشيها سطعت أنوار المسيحية فاتحة ذراعيها للإسلام ودين الرسول الكريم.‏

تتالت عليها عوادي الزمن فهجرت حيناً وعمرت حيناً آخر، فكان إعمارها الأشهر في القرن الثاني للهجرة على يد عبد الله بن صالح العباسي ولكنها لم تسلم من طعنات الحروب لتلاقي الدمار الأخير على يد تيمور لنك عام 400 للميلاد ولكن سلمية كعادتها لملمت جراحها ونفضت عن جناحيها غبار السنين لتعود وتحلق مرة أخرى على أطراف البادية وتستقبل أبناءها وتضمهم في حضنها حيث الدفء، فيها وطن والسماء فيها كون يستحيل فيه الدمار إلى عمار ليس جديداً على السلمية استهداف البشر والحجر فيها، فالجبان يخاف الشجاع والجاهل يحارب العقل والظاهر يطفو على الباطن ظناً منه أنه سينتصر؟‏

في ليلة التفجير الإرهابي الذي وقع قرابة السابعة والنصف مساء وبعد برهة كانت السلمية كلها رجالاً ونساء اجتمعت في موقع الحدث المؤلم...تبكي أحبتها وتقف على أطلال، كانت مكاناً لقلوب تخفق وضحكات لأطفال زهقت براءتهم واغتصبت أعمارهم الغضة ورفرف ربيعهم مودعاً الدنيا التي تضج بالشمس والمطر.‏

أذهلهم المشهد فالمعالم تغيرت ووحده السجاد اليدوي الذي كانت تغزل بها أيادي النساء خطوطاً وزخارف وترسم عليها بركة ماء، جف الماء وتكسرت البركة وباتت الوحدة أثراً بعد عين، إلى جانبها منزل كبير مزروع بالشجر والكرمة، مسكون بالبشر، لم يعد هناك بشر ولا شجر أمام هذه المعالم، كانت هناك طبقات من البيوت كشفت وعريت محتوياتها فالجدران سقطت والسقوف وألعاب الأطفال وأجهزة الحاسوب وجدت بين الركام ، الكتب مزقت واحترقت فلم يعد هناك مدرسة ولن يكون هناك - ميلاد- تذهب للدوام صباحاً وتعود ظهراً إلى بيتها الذي اختارته قريباً من مدرستها ولن تقدم -وفاء- امتحان الفصل الثاني ومن سيستلم نتائج الفصل الأول؟‏

استنفر أساتذة المدارس وذهبوا ليكتشفوا حجم الدمار الذي طال الثانوية العامة والصناعية وروضة الشهيد حسن بصل والنادي الرياضي التي تقع جميعها خلف موقع التفجير مباشرة حيث هدم جزء من الروضة وبعض جدران ثانوية علي بن أبي طالب ولم يبق نافذة أو بلور أو باب خشبي أو أي جهاز حاسوب في مكانه فكل شيء محطم، مكسر، مطحون، معجون ببعضه الأبواب الجرارة في الثانوية الصناعية كلها غيرت مكانها رغماً عنها.‏

وكنت أتمنى أن يبقى صوت دوس الأقدام على ورق الشجر الخريفي هو الصوت المؤثر على إحساسي لكن صوت دوس الأقدام على الزجاج المكسر هو الذي يهيمن الآن.‏

الزجاج المنتشر في المدارس في الشوارع مكسراً غطى الاسفلت في حينها في ليلتها لم ينم الشباب فالكل يريد أن يعمل، الكل يريد أن يساعد أن يبحث عن الناجين أن ينقذ جريحاً أن يتبرع بالدم أن يكفكف دموعاً، سارع أطباء وممرضو المشفى الوطني لإنقاذ ما يمكن انقاذه من المرضى الذين يشرفون على علاجهم، بعض الممرضات عرضن حياتهن للخطر في سبيل إنقاذ أطفال الحواضن وقسم الأطفال ونقل الأطباء ما أمكن كل الحالات الحرجة إلى المشافي الخاصة تلك الليلة كانت فظيعة وطلع الصبح على نشر أسماء الشهداء وأسماء المفقودين وتوالت على المشفى أشلاء الضحايا التي وجدت على سطح هنا وزاوية هناك وفي يوم التشييع كانت جوامع المدينة قد أعلنت الحداد على أبنائها فاستيقظ السكان على صوت قارئ القرآن الكريم، عله يهدئ من روع الأهالي ويدخل في نفوس من فقد أحبته السكينة، في يوم التشييع امتلأت ساحات المدينة وشوارعها بالمشيعين وعاشت سلمية عرساً لم تشهده من قبل، الجميع حزين والسواد يخيم على القلوب لكن الشعب حي فالحناجر انطلقت بوداع الشهداء والقسم بفداء الوطن والتضحية من أجله، الحناجر انطلقت والزغاريد ودّعت الشهداء من الصباح وحتى الواحدة من بعد الظهر.‏

وفتحت بيوت العزاء للمعزين حتى لم يكد شارع يخلو من ذلك، لم تندمل الجراح ولن تنسى تلك الأرامل أولادها الذين ربتهم بالدمع والدم، لن ننسى أن لديها ولدين استشهدا في يوم واحد، ليلة واحدة ودقيقة واحدة.‏

لن ننسى والله مع الصابرين.‏

في اليوم الثالث من الفاجعة وفي توقيتها مساء وفي نفس الطريق توجه شباب وشابات السلمية بمسيرة شموع انطلقت من الساحة العامة وصولاً إلى موقع التفجير أضاؤوا الشارع وأضاؤوا المكان بالشموع وزرعوها في التراب الذي روي بالدم السوري وقرأوا الفاتحة على أرواح الشهداء بصمت ومهابة واتفقوا على أن يعودوا صباحاً للعمل في شوارعها ومدارسها ليعيدوا إليها الحياة التي لن تتوقف ماداموا يتنفسون من هواء هذا الوطن ويعيشون تحت قبته المقدسة.. وسلمية دمرها المغول والتتار فلم تمت وعمرها أبناؤها منذ عمق التاريخ، فهل سيعجزون عن تحدي دمار القرن الحادي والعشرين، التاريخ يقول: إن الشعب الحي لا يموت وشهداءنا لم يموتوا بل عاشوا في قلوب كل السوريين الذين ينتمون جسداً وروحاً إلى هذا الوطن.‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية