|
مقالات في الذاكرة آراء تحرّض الأحاسيس، تشحن الحنايا، تقلّب الأوراق، ورقة، ورقة، حتى تضبط تلك الأوراق متلبسة بإهاب الاستعداد لتقديم فحوى سطورها عن طواعية ورضا وإذعان.. عندها تبدأ أصابعي رحلة كتابتها. «المقالة الجديدة» يجب أن تختلف عن سابقاتها، لتعطي فرصة إضافية للمتلقي كي يستفيد أكثر، وتتيح فسحة للجميع كي يقيموا مقارنات بين ماكتب، وما استجد. نماذج من المقالات تقدّمها صفحات المجلات كل يوم.. كمٌّ من الموضوعات المتنوعة المتعددة الاتجاهات والأفكار والآراء تحمل صبغة أصحابها، أهواءهم، أفكارهم، دواخلهم، سماتهم المعلنة وغير المعلنة، أقلام تكتب منذ زمن بعيد، اتسمت بالخبرة والتمرّس، فصار الإبداع لديها حرفة، والحرفة إبداعاً وابتكاراً يسهم في دفع الآخرين للمتابعة باستمرار. ومع وجود هذا الزخم الكبير من الأعمال، وعلى وجه الخصوص «الزوايا» التي تندرج تحت عناوين ثابتة، فإنّ القرّاء يختارون منها مايناسبهم ويريحهم، ويصل إلى أعماقهم، لذلك فإنّ التهيؤ للكتابة يثير التوجس، لأنه يعني مخاطبة قارئ متابع مثقف، إضافة إلى مخاطبة قارئ جديد غير الذي عرفناه، ونشأت بيننا وبينه وشائج من المعرفة، وربما الصداقة والألفة. كما أنّ الكتابة في صحيفة لم نتعودها وتتعودنا تزيد من الإحساس بتلك الرهبة، وتجعلنا في وضع قلق يستمر بنا حتى نتأكد من تقبّل مطلعي تلك الصحيفة لما نكتب.. وبعد وقت، نعرف أنه لافرق جدّياً بين مخاطبة قارئ هنا، وقارئ هناك، مادام الاثنان يتنسّمان من هواء ثقافي واحد، ويعيشان ضمن مساحةً وجدان واحد. ويستوطنان أرضاً عربية واحدة. والمقالة، مثل أي عمل فني، ما أن تصبح جاهزة للنشر حتى تخرج من دائرة صاحبها إلى دوائر الآخرين. وحسب عمقها وقوة تأثيرها، تتجاوز الحيّز القريب، لتدخل في مشترك إنساني له بعده الأكثر اتساعاً وامتداداً، فتجمع حولها الأحباب والأصدقاء والمريدين والنقّاد وسواهم، دون أن يستطيع واحد من هؤلاء، مصادرة رأي كاتبها، أو إلغاء آرائه، أو التقليل ممّا يطرح، أو تهميش أفكاره، وتعريضها إلى اللبس. كاتب الزاوية في أي جريدة، أو مجلة، إنسان مبدع يبذل جهده، ويقدِّم مضمون عقله من أجل إنجاز عمل لايقلّ أهمية عن القصة، أو القصيدة، أو أي إبداع آخر له دور العلاج، وزيادة جرعة الحلم إلى حدودها القصوى. بعض الكتّاب يحجمون عن مزاولة العمل الصحفي، ويدعمون موقفهم بأدلة تثبت أنّ ممارسة الصحافة تعوق الإبداع الحقيقي، وتقف حائلاً بوجهه.. وأنا من جهتي أرى العكس تماماً.. فالزوايا المعنيّة بإنجازها تشدّني كي أبحث، وأنقّب، وأقرأ باستمرار، ما ينعكس بالتالي على ازدياد مخزوني المعرفي، وثروتي اللغوية، ويخدمني ويخدم القصة لدي، ويفتح لي آفاقاً متّممة لها.. ويتابع بعض الكتّاب الذين يتبنون الرأي الآخر: - «إنّ الجريدة تهمل بعد قراءتها على خلاف الكتاب.. فلماذا نضيّع وقتنا هباء؟». إن مايخلد المقال في الأذهان، هو قيمة ماورد فيه، والأفكار المهمة التي تناولها. فكم من الموضوعات قرأناها منذ زمن، ولم نستطع نسيانها رغم مرور الأيام. قد تتأثر القصة بالخاطرة، والخاطرة بالمقال، والمقال بالمسرحية، والمسرحية بقصيدة ما.. لكن في النهاية، يُعطى كلٌّ من هذه الفنون قيمته الحقيقية، عندما يكتبه أديب حقيقي أوصل مايريد إلى روح القارئ وقلبه وعقله.
|