فأصدر قصة شعرية قصيرة تحت عنوان «عتبة السلطان» دفاعاً عن الفن والطبيعة واحتجاجاً على رأي أفلاطون في الشعراء، وأيضاً فعل ذلك الشاعر العربي المهجري ايليا أبو ماضي في قصيدته «الشاعر والملك الجائر».
تدور أحداث رواية بتيس في بلد بايرلندا يدعى (غارت) حيث كان يعيش شاعر كبير اسمه (شهنان) تتلمذت على يديه أجيال من الشعراء. غير أن رجال البلاد والجند والمشرعين احتجوا على اشراك الشاعر في شؤون الحكم، فأعلنوا أنهم لايقبلون أن يجالسهم أو يشترك في مناقشاتهم وقراراتهم، فنزل الملك عند رغبة رجال البلاط، فأقصي الشاعر عن مجلس الشورى. وحرم الشعراء من حق ابداء الرأي.
ولما وصل الخبر إلى شهنان غضب غضباً شديداً وجلس على عتبة الملك وأعلن إضراباً عن الطعام حتى يموت، أو يتراجع الملك عن قراره. وكان السكان قد توارثوا اعتقاداً بأنه من يموت جوعاً على عتبة رجل آخر وهو مظلوم. جلب موته النحس والشؤم على الظالم وحمل له الويلات واللعنات حتى لو كان الظالم ملكاً أو سلطاناً.
والملك الايرلندي واحد ممن يؤمنون بهذا الاعتقاد لذلك دب الذعر في قلبه، وخشي أن يموت شهنان على عتبته جائعاً فيجلب له المصائب والكوارث، فأرسل له الواحد تلو الآخر لإقناعه بالعدول عن موقفه والتوقف عن الاضراب عن الطعام. مؤكداً في الوقت ذاته تمسكه بقراره الخاص بإبعاد الشعراء عن شؤون الحكم خشية أن ينقلب عليه رجال البلاط والنبلاء.
وكان أول من ذهب لإقناعه أقدم تلامذته مدفوعاً بالحب لأستاذه ومشفقاً عليه من المصير الذي ينتظره فيما إذا استمر في امتناعه عن الطعام فيقول التلميذ لأستاذه: لقد أخطؤوا حيث ألغوا حقنا، غير أن من يحدث نفسه بالموت من أجل ذلك الحق ياشهنان، فإنما هو إنسان أحمق، إلا أن شهنان لم تؤثر فيه كلمات تلميذه، ولم تزحزحه عن عزمه. ولكن دخل معه في حوار حول أمر الفن وضرورة الدفاع عنه وعدم التفريط بشيء منه قائلاً: «قل لي أي شيء يصيب العالم لو فنيت الفنون» فيجيب تلميذه قائلاً: «لو فنيت الفنون لأصبح العالم مثل امرأة حبلى لا ترى من آلام حملها الأرنب المشقوق الشفة فتلد من رحمها طفلاً مشقوق الشفة».
وبعد أن يفشل التلميذ في مهمته ، يذهب رئيس البلدية ليجرب حظه مع شهنان ولكن بتيس يصوره لنا بأنه إنسان ببغاوي يردد العبارات التي تصاغ له، جبان متملق يخشى كل ماله صلة بالقصر ورجل بليد بطيء الفهم فإذا ماسمع كلام شهنان يرد قائلاً: «ماذا يقول، إنني لاأفهم من كلام الشعراء إلا ماأفهمه من ثغاء الخروف».
بعد ذلك يتطوع حاجب القصر لإقناع شهنان بالعدول عن موقفه، ويحاول أن يصطحب معه القسيس، ولكنه يرفض لاتحيزاً للشاعر بل غضباً منه، وعن موقفه الذي يدل على التمرد والعصيان، ولهذا فهو لن يصلي على روحه ويقول: وإذا كانت الغطرسة والعصيان لإيمان بعقاب، فمن الذي ترجى طاعته من بعد».
وبعد فشل جميع المحاولات التي تمت بما فيها محاولة الأميرتين ابنتي الملك لم تبق إلا المرأة التي يحبها، فترسل إليه لعلها تنجح حيث أخفق الآخرون، فنجده ضعيفاً هزيلاً خائر القوى مبلبل الأفكار والذاكرة، ولكن ما إن يراها حتى يستقبلها بلهفة واشتياق وينجذب إليها ويخبرها أنه سيعود معها إلى حيث نما حبهما وترعرع، ثم يمد يده إليها لتنهضه فيفطن إلى عدم وجود أي من تلامذته حوله فيسألها ولكن لم لم يأت تلامذتي، ليأخذوا بيدي - اذهبي وادعهم لأني بحاجة إلى معونتهم».
فإذا مانهض أحس بالضعف وعدم القدرة على المشي فيسألها، لم هو ضعيف، وهل هو مريض فتغمّس له حبيبته لقمة من الخبز وتناوله إياها ليتقوى بها ويشتد.. ولكنه ماإن يقربها من فمه حتى يتذكر أنه مضرب عن الطعام إلى أن يعود للشعراء حقهم القديم. فتثور ثائرته، ويوجه إلى حبيبته كلاماً قاسياً جارحاً ثم يأمرها بأن تغرب عن وجهه: اذهبي حيث شئت لكي تغيبي عن النظر وعن القلب معاً. إني ألقي بك عني كما ألقى قبعة بالية وقفازاً فقدت أصابعه.
وتذهب المرأة تجر وراءها أذيال الخيبة والفشل ليحضر الملك بذاته لعند الشاعر فيقول له: ياشهنان ألق عنك عجرفتك، كما ألقيت عني الشكيات التي يتطلبها مقامي. فقبل قليلاً كنت استأثر بحبك، أما الآن فتلقي النار في كل كوخ. واعلم أني لو استسلمت لمشيئتك لأغضبت النبلاء ورجال البلاط، وحينذاك يزلزلون القواعد التي ينهض عليها الحكم.. لقد أحضرت لك الخبز بيدي. وأنا آمرك أن تأكل لكل الأسباب التي أبديتها.. ولسبب آخر وهو أني أحبك.
لكن شهنان لايصغي لكلام الملك، فتثور ثائرة الملك الايرلندي ويمتلئ قلبه بالغضب فيرتدي على الفور شخصية المتسلط فيأمر أن يقدم الشعراء تلامذة شهنان وقد لف حول أعناقهم حبل المشنقة ثم يقول لهم: «توسلوا إليه كي يهبكم الحياة، أروه حبل المشنقة الذي يلتف حول أعناقهم، فإن صمم أن يموت فليعلم أنكم جميعاً ستموتون معه».
وهنا تصل القصة الشعرية إلى ذروتها. وهنا تتجلى روعة الموقف وعظمته إذ يتقدم التلامذة من أستاذهم قائلين: «مت ياشهنان ولكن لاتتراجع عن المطالبة بحق الشعراء».
وتنزل هذه الكلمات برداً وسلاماً على قلب الشاعر وتملؤه غبطة وفرحاً وسروراً فيخاطبهم قائلاً: اقتربوا مني لأعرفكم بوجوهكم وألمسكم بيدي يا أعز عليّ من الثريا ويا ألصق بالقلب من أبناء يافراخي، يافراخي التي خفضت لها جناحي فقفزت وقويت وطعمت من روحي فتسامت.
ثم يسلم الروح مطمئناً مرتاحاً لأنه ترك وراءه تلامذة لايتنازلون عن إيمانهم بالفن ولايتراجعون عن مواقفهم رغم جور الطغاة وظلمهم، وفي الحال يأمر الملك تلامذته أن يحملوه بعيداً فيقول: أحضر تلامذة شهنان، لقد ذهب الحق القديم وبقي الجديد وهو الموت.. لاصبر لنا بعده فاطلب إليك ثني الحبل، ولكن الملك يترك المكان ويتقدم الجند ليمنعوا تقدم الشعراء ويصيح أحد الجند قائلاً: لامكان لكم هنا فقد مضى وتلاشت دعواه الباطلة..انصرفوا قبل أن يؤمر أرباب السيف بطردكم من الباب حينذاك يحمل التلامذة جثة أستاذهم الشاعر شهنان ليجدوا له مكاناً بين أحضان الطبيعة ويشيعوه إلى مستقره الأخير والموسيقا تصدح من حوله.
وفي الموضوع ذاته كتب الشاعر المهجري قصيدة بعنوان (الشاعر والملك الجائر) وخلاصتها أن أفكار الشاعر ونصائحه وحكمه باقية خالدة وهي تروي حكاية الفن المتحرر من التملق والانقياد للجاه والعبودية للمال.
وهكذا نرى أن الشاعر الايرلندي والعربي أرادا أن يصورا الصراع بين الفن والاستبداد وبين الشعر وظلم الحكام الطغاة ، وعلى الرغم من أن الشاعرين يلتقيان في الموضوع إلا أنهما يفترقان في رسم الشخصيات ففي قصيدة أبي ماضي يبدو جلياً أن حياة شاعر شيء لاقيمة له في نظر سلطان سفاح غضوب حيث يصور لنا الشاعر المهجري شخصية السلطان تصويراً مستمداً من التاريخ والبيئة.
فالسلطان سريع الغضب، سريع الهيجان، أوامره لاترد ولا تقبل فيها شفاعة ولاأناة بينما يصور لنا بتيس الملك حائراً متردداً راغباً في اقناع الشاعر بالعدول عن موقفه خوفاً من ثورة الشعب ولايجد أي حرج أن يشارك بنفسه في المحاولات التي جرت في هذا السبيل. ففي رواية بتيس قبس من الروح الديمقراطية بينما في قصيدة أبي ماضي لاوجود للجماهير أو الشعب اطلاقاً.
غير أنه في كلتا القصيدتين يموت الشاعر وينتصر الملك ولكنه انتصار أقرب منه إلى الهزيمة كما يتصوره الشاعر. إذ يقول بتيس في روايته بعد موت الشاعر:
لان العصور التالية
ستمجد ماكان يمجده
وتلعن ماكان يلعنه
ويقول أبو ماضي: والشاعر المقتول باقية
أقواله فكأنها الأبد
والشيخ يلمس في جوانبها
صور الهدى والحكمة الولد.