وبالوقت نفسه, وربما سبقنا الغرب في الكشف عن كهوفنا وأغوارنا, درس تاريخنا وحيواتنا, استكشف كل شيء, كانت الرحلات أولى طرقه في ذلك, وبعدها تعددت الوسائل, وعلى العكس من هذا كان الكتاب العرب بين معجب مغرم بما في الغرب, وآخر لايرى فيه إلا حضارة مادية.
ربما عمل البعض على جسر الهوة بين الضفتين, ولكن ذلك لم يجد نفعا, وكان الأدب الروائي الأكثر قدرة على التواصل والوصف ونقل عوالم الغرب, من رواية توفيق الحكيم (عصفور من الشرق) الى احدث ما يمكن القول إنه مثاقفة عن طريق الرواية. ما قدمته الدكتورة ماجدة حمود الاستاذة في جامعة دمشق, وقد جاء تحت عنوان: محجبة بين جناحي باريس, صدرت الرواية عن دار الحوار في اللاذقية, بداية تؤكد الكاتبة انها ترددت كثيرا في كتابة هذه الرواية السيرية كما تقول عنها, لأن مواجهة الذات ليست بالأمر السهل لمن اعتاد قراءة الآخرين والهروب من قراءة ذاته, لكن كما تقول, علي ان اشكر قذيفة اصابت في اذار 2017م العمارة التي اسكنها في دمشق فقتلت ترددي وحفزتني على الكتابة, لعلها أيقظت في داخلي رغبة في إنقاذ ذاتي من موت سيأتي عاجلا أم آجلا...
إذا هي سيرة ذاتية, واقع معاش وحقيقي, تؤرخ للأيام التي قضتها في باريس, وكانت تقيم عند إحدى العائلات, فالبطل هو الكاتبة نفسها إضافة إلى العائلة التي شكلت معها محور العمل, ومعهم الشخوص الآخرون ممن تفاعلت وتواصلت معهم, بشكل أو آخر, يحسب للكاتبة أنها كانت منذ البداية جريئة في طرح الكثير مما تؤمن به وتراه صوابا, سواء اتفقت معها أم لا, قضية الحجاب التي تجعلها تلح وكأنها الهوية والمصير, وهنا من باب التقدير والاحترام لكل خصوصية, ذكرتني وهي الأستاذة الجامعية بأمي (أمد الله بعمريهما, أمي والاستاذة) أمي التي تجاوزت الرابعة والثمانين, ونحن ابناء الريف الفلاحي, كانت في حرب طاحنة مع أختي التي تمردت على الحجاب, وفي الساحل يسمى (إشارب).
نعم, حرب ضروس, استمرت حتى تزوجت أختي, ومازالت أمي تقول إن اختي لم تسمع الكلمة, والرواية التي تجعل الحجاب قضية هنا, بل اتخذته الجزء الأساس من عنوان الرواية, وربما من البداية تريد أن تشي أنها حملت معها هويته هذه, كحالة إبلاغ مباشر أنها لم تتخل عن العادات والتقاليد, التي نحترمها ونقدرها, وبالوقت نفسه الرسالة تؤكد أن مقولة: الشرق شرق, والغرب غرب, ولن يلتقيا, ستبقى صحيحة على الرغم من أننا في أتون التقارب الجغرافي والافتراضي, لكننا ابعد ما نكون عن التفاعل الإنساني, في الشرق والغرب, وحين الوصول إلى نقطة التلاقي يضيق عنق الزجاجة, ويعود كلّ منا (شرق وغرب) يدعي أنه تجاوزها.
في اليوميات المؤرخة بدقة تقدم ماجدة حمود مادة سردية شائقة, تمضي في قراءتها وكأنك تعيش حياتها ترافقها, ترى كل تفصيل, تسمع وقع النقاش, كيف يكون رد الفعل حين تقع بهفوة لغوية, تفاصيل كثيرة تشدك وتبوح بأسرار الحياة الفرنسية, ذاكرة المكان والمقارنة بين الشرق والغرب, الخوف من كل شيء في البدايات, محاولة قراءة إيمان الآخر والتدخل بخصوصيته العميقة, وهنا سر من أسرارنا كشرقيين, كل منا يظن نفسه وكيل الله على الأرض, يدعو باسمه وربما يحاكم ويحاسب بذلك, وعلى اساس أننا خير أمة اخرجت للناس.
في اليوميات قراءة في شرخ العلاقات الغربية, ميل الفرنسية لتربية الكلاب والاهتمام بها, وهذه ظاهرة غير عادية عند الكاتبة, في اليوميات محاكمة للثقافة والمثقف, الكاتب الروائي (الدون جوان) يتنقل من امرأة لأخرى, كل امرأة عنده رواية, حكاية (أنا اخلص للمرأة حين اعيش معها قصة حب). ربما يذكرنا بنزار قباني الذي قال إن المرأة ليست إلا موضوعا فنيا, وليس الأمر قضية حب.
أما المرأة الشرقية ص265 (فالمرأة الشرقية في قفص الاتهام دائما, اعترف انني مازلت تقليدية, لا أجرؤ على الحديث عن تجربة لاعيب فيها ولاحرام, لكن مجتمعي المحافظ لايقر بها) ولا تغفل الكاتبة المقارنة بين (بلاد الحرام الكفار) وبين ما تعرضت له في بلاد تدعي أنها بلاد الإسلام, مدن الملح التي تجعلك مجرد عورة..
الرواية فكرة جريئة يحسب لمؤلفتها أنها قدمتها برؤية تثاقفية ثرة, تضيف رصيدا لمن يريد أن يقرأ العلاقة التثاقفية مع الغرب, ناهيك بالبلاغة التي كتبت بها وقدرة واجتراح الأسلوب الذي يشدك إلى نهاية المطاف.. الرواية صدرت عن دار الحوار باللاذقية.