ولكن وجود نيلسون مانديلا في السجن، جعله يدرك أنه لايمكن للعنف أن ينهي العنصرية في جنوب أفريقيا، بل إن مفهوم المساواة والتسامح هو حلها.
وعلى الرغم من العذاب الذي لايطاق في سجن انفرادي، وحرمانه من كل الذين أحبهم، وبعضهم غادر الحياة وهو في سجنه، أسرته المعاناة مع شعب بأكمله، دونما ذنب سوى سواد بشرتهم.. قتلوا ولم يحملوا أي سلاح!
إلا أنه وبعد خروجه من السجن بفترة وجيزة، انفصل عن زوجته، تلك التي لم تستطع النسيان والمسامحة، وأصرت على العنف، بينما هو رفض الانتقام، والاخذ بالثأر.. تعالى على عذاب السنوات الطويلة رافضا الانجرار وراء الشخصي، في سبيل الناس الذين ناضل لأجلهم، ليمشي معهم بهدوء، ومن خلال صناديق الانتخابات نحو حرية حقيقية، توجته اول رئيس اسود لجنوب افريقيا..
فيلم (Mandela: Long Walk to Freed - مانديلا: طريق طويل إلى الحرية) اقتبس عن سيرته الذاتية التي صدرت سنة 1994 نزل لقاعات السينما عام2013 أخرجه جوستان شادويك وبطولة إدريس ايلبا وناعومي هاريس..
الفيلم لم يتناول حياته بطريقة أقرب الى السرد او الوثائقي، كما نعيش عادة مع بعض أفلام السير الذاتية..وانما قدم لنا ملامح مكثفة لحياة الزعيم التاريخي نيلسون مانديلا.. بطريقة درامية، تشبث فيها الممثلون بتمثل أداء يراوح بين الحفاظ على روح شخصيات معاصرة، وفي الوقت ذاته يتجه نحو ابعاد درامية تشد المتابع حين يصر على تلوينها بنكهة حياتية-مرحة، تستقبل أصعب الظروف بروح التحدي الهادئ..
هكذا يمضي الفيلم بنا بعيدا عن القتامة، رغم كم الظلم، والقتل الذي يحفل به، إلا أن المشاهد المتسارعة، تجعل الفيلم يبدو وكأنه هو الآخر يهرب منها، ولا يستند عليها إلا كمرجعية ليبرهن شرعية وعدالة القضية التي يحملها العظيم مانديلا..
يركز الفيلم على طبيعة شخصيته وكيف تتطور تبعا للظروف والمواقف، فالشخص العنيف في بداية حياته، تختلف شخصيته تباعا مع تتالي الاحداث، وبدلا من ان تودي به تجربة السجن، هانحن نرى رجلا -ذكيا-حكيما،، لاتغادره الطرافة حتى في أصعب المواقف وأسوأها..!
هدوؤه العجيب والزمن يهرب من بين يديه، يجعلك تفطن الى سر لمعان شخصيته الكبير، يلفتك الفيلم دونما عناء، كيف يكون النضال من اجل الحريات.. هكذا بكل بساطة لاشيء يبدل مبادئه، لاشيء يعادل نصرة شعبه.. لاشيء على الاطلاق..!
ورغم ذلك لم يقدمه الفيلم كأنه شخصية مثالية قادمة من عالم الحكايات الخرافية، هكذا نراه في شبابه، متعدد العلاقات يهرع الى الرقص كلما واتاه الوقت.. قد يكون عنيفا تارة.. متناقضا تارة اخرى.. !
يشبه أي شخصية اعتيادية تنضج مع مرور الوقت، وتتعلم من تجارب الحياة، لكن الشيء الوحيد الذي لم يبدل قناعته بعدالة قضية شعبه، وكفاحه المرير ضد نظام الفصل العنصري،..
يبدأ الفيلم وينتهي بحلم يراود نيلسون مانديلا يرى نفسه فيه عائداً الى منزله في اورلاندو.. ويمكنني سماع كل من أحببتهم في حياتي، اردت أن أصل اليهم، وان ألمسهم، ولكنهم قد رحلوا..!
في نهاية الفيلم عندما يمضي نيلسون مانديلا، ليحيي الشعب الذي توجه زعيما، ورئيسا لجنوب افريقيا.. يمشي بخطوات تبدو أقرب الى القفز، خطوات واثقة، ما كانت تفعله.. ترك الماضي خلفه.. الماضي المدمر، اعتنق المستقبل وقدم هبة لايعادلها ثمن.. الديمقراطية.
يقول في نهاية الفيلم.. بصوته: «لقد مشيت لفترة طويلة على هذا الطريق الطويل جداً ولا أقترب من نهايته، لا أحد يولد كارهاً الآخرين بسبب لونهم، يتعلم الناس الكراهية لذلك يمكن أن يتعلموا الحب أيضاً.. الحب فقط يمكنه جلب راحة البال.»
كما يبدأ الفيلم بمشهد في حقول لونها يشبه لون الشمس المحمر، ينتهي تقريبا بالمشهد نفسه، وما بين المشهدين يقدم لنا الفيلم حياة كاملة لشخصية ملهمة، في المشهد الاول يركل الطفولة الى الرجولة.. وفي المشهد الاخير هاهو بين احفاده يعلمهم طريقته الخاصة في الاستمتاع بالحرية والحب..!
الفيلم الذي افتتح به المهرجان السينمائي «أفلام حديثة من الشركات العالمية» (الجزء الثاني)، في دار الاوبرا، لايقدم لك مجرد متعة سينمائية، انه يعلمك ان للحياة لوناً آخر ومعنى اعمق بعيداً عن كل هذا الجنون والتهريج..!
soadzz@yahoo.com