ولسنا الآن بصدد شرح لتاريخ تلك الحقبة من الزمن لكن لابد من الإشارة إلى أن الخطوط العريضة رسمت تاريخنا و أول هذه الخطوط: خروج الوطن العربي من تحت الاحتلال العثماني ووقوعه تحت احتلال آخر هو الاستعمار الأوروبي الذي جاءنا محملاً بوسائل أكثر خبثاً ودهاءً مازلنا ندفع ثمنها حتى الآن، هذه الحال المزرية (تجزئة/ تخلف) جعلت النضال مضاعفاً فكان على الجماهير أن تعمل على جبهتين متلازمتين الأولى: نضال ضد الاستعمار، والجبهة الثانية العمل من أجل النهوض بمقدرات الأمة وإعادة بعث تاريخها ومواصلة لرسالتها التاريخية والعمل لغد أكثر إشراقاً وبالوقت نفسه العمل من أجل الوحدة الكبرى التي تمثل حبل الخلاص من هذا الواقع الراهن.
في هذه الظروف ولد حزب البعث العربي الاشتراكي، وجاءت ولادته استجابة طبيعية ونوعية لأمال الجماهير العربية وحسب الذين عاصروا تلك المرحلة فإن التأسيس كان على أكثر من مرحلة، وهذا ما أشار إليه شاعرنا الكبير سليمان العيسى في حوار أجريته معه منذ حين فاض بالحديث عن أيام التأسيس وعن (الأستاذ) زكي الأرسوزي وذاك النضال الذي خاضوه وصولاً إلى لحظة الولادة التي كانت في عام 1947م.
واليوم وقد بلغ البعث أشده وخاض غمار النضال الوطني والقومي، فإن التجربة النضالية تزداد رسوخاً وتجذراً وهي تجربة تتكامل جوانبها وتقدم نظرية لاتنغلق على معطيات جامدة يابسة، بل تضع الاستراتيجية العريضة وتراجع معطيات التنفيذ من خلال محطات نضالية، وقد تجلى ذلك في الحراك الذي شهده حزب البعث العربي الاشتراكي وتوج باستعادة الألق الفكري والنضالي بقيام الحركة التصحيحية بقيادة القائد الخالد حافظ الأسد عام 1970م.
واليوم وبعد أكثر من ستين عاماً على التأسيس وبعد كل العواصف والرياح الهوجاء التي هبت على السفينة وربانها ولم تستطع هذه العواصف أن تنال من عزيمة الأمة ونضال أبنائها، بل زادت التجربة النضالية قدرة على العطاء والتواصل، بعد هذا كله يمكن لنا أن نقف عند خطوط عريضة لملامح فكرية وثقافية أرساها البعث وأثبتت المتغيرات صحتها وصلابتها وقدرتها على الصمود بوجه العواصف العاتية.
رسالة الأمة
رسالة أمتنا كما حددها حزب البعث العربي الاشتراكي هي: أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة، والعروبة ليست عنصرية أو عرقية أو شوفينية، بل هي حضارة متجذرة منذ آلاف السنين، وقد قدمت للبشرية إنجازات لاتعد ولاتحصى، والعروبة تتلاقى مع الأمم المناضلة في سبيل حريتها وكرامتها، ومن هنا فإن أول سمات العروبة التسامح والتواصل والتفاعل، فهي البوتقة التي تلم شمل الأمة وتقدم وجهها المضيء.
تراث الأمة
وللعروبة تراث يمتد إلى أحقاب التاريخ الأولى، فنحن ورثة الأمة التي قدمت للبشرية أبجديتها الأولى وعلمتها حروف الإنسانية وفاضت على الدنيا بما غير مجرى التاريخ وأنقذ العالم من براثن الجهل.
وهذا التراث الذي عمل البعث على إحيائه وصونه وتقديمه إلى العالم كله وبالوقت نفسه العمل على تفعيله والمشاركة في انجازات الحضارة، هذا التراث علقت به أوضار وشوائب، وحاول الكثيرون العبث به وتشويهه ومن هنا كان للبعث موقفه من التراث وتقديمه وضاء إنسانياً متفاعلاً مع تراث الأمم الحضارية ،ومن ملامح هذا التراث وعوامل صونه (اللغة العربية) التي رأى زكي الأرسوزي أن عبقرية الأمة في لسانها، لغتنا هذه أولاها البعث كل اهتمام، وزاد هذا الاهتمام بعد قيام الحركة التصحيحية المجيدة، واليوم يتواصل الاهتمام نفسه.
فلغتنا العربية محط اهتمام السيد الرئيس بشار الأسد وقد أولاها كل اهتمام ونقل هذا الاهتمام إلى مؤسسة القمة العربية التي وضعت التوصيات والمقترحات على جدول أعمالها ورأت أنه عمل قومي يجب أن ينال كل جهد.
وإذا ماتركنا الوعاء الحاضن لفكرنا القومي (اللغة) وألقينا نظرة على ما شيد من مؤسسات ثقافية وتعليمية في ظل البعث يدلل على أن العطاء كان ثراً وناضجاً، ويكفي أن نشير إلى أن صروحنا الثقافية لم تأخذ في يوم من الأيام أي صبغة قطرية، ولم تتعصب لأي نزعة، بل تفاعلت مع الثقافات العالمية الأصيلة في كل بقاع الأرض، وهويتنا الثقافية والحضارية تأصلت وازدادت رسوخاً وقدرة على مراجعة الذات ونقدها وتطويرها نحو آفاق سامية بدءاً من المشاركة في عمليات التعريب في الأقطار العربية التي نالت استقلالها عن فرنسا وكادت تفقد عروبتها وهويتها، لقد كان نضال البعث منطلقاً من ثوابت الأمة في (الوحدة والحرية والاشتراكية) وهي أهداف إنسانية نبيلة يزداد تمسكنا بها وعملنا من أجلها في ظل عالم متغير متقلب، لايعرف إلا محاولات فرض الإرادات بالقوة، لقد طور البعث نظريته الفكرية من خلال التفاعل الخلاق بين التراث والحاضر واستشراف المستقبل، وصاغ هوية عربية نقية دون تعصب، وبرهنت الوقائع والأحداث أنها كانت بوصلة حقيقية دلت على الطريق الصحيح في وجه الغزو العولمي المتوحش في وجوهه الثقافية التي تسلع كل شيء، وتريد اقتلاع الجذور وتشويه كل نقي.