حين نقرأ تلك الحوارات التي تضيء جوانب كثيرة من حياة أدباء وكتاب عالميين، أحدثوا تغييراً في القرن العشرين. وأثناء القراءة تنفتح أسئلة كثيرة عن عالمهم الإبداعي والفني وعلاقتهم بواقعهم ومسيرتهم الفنية.
يسرد همنغواي قائمة بأسماء أسلافه الأدبيين الذين تعلم مهم: مارك توين، فلوبير، ستندال، تورغينيف، دوستويفسكي، تولستوي، شكسبير، موزارت، فان غوغ، غوغان.... مضيفاً أنه يحتاج إلى يوم كامل لتذكرهم جميعاً؛ فهو كما يقول يتعلم الكتابة من الرسامين والموسيقيين بقدر ما يتعلم من الكتاب.
يعترف وليم فوكنر بأنه – مع معاصريه – فشلوا في تحقيق حلمهم في الكمال، ولذلك فهو يرى بأنه لو سنحت له الفرصة من جديد لكتابة كل أعماله، فسيكتبها بشكل أفضل. وفي رد على سؤال: هل تقرأ أعمال معاصريك؟ يجيب: «لا.. الكتب التي أقرأها هي الكتب التي عرفتها وأحببتها، عندما كنت شاباً، والتي أعود إليها كما تعود إلى صديق قديم: العهد القديم، ديكنز، كونراد، سيرفانتس، دوستويفسكي، تولستوي، شكسبير، مارلو، كامبيون، جونسون، دن، كيتس، شيلي، هاوسمان..» ويتابع ساخراً حول فرويد: «كان الجميع يتحدثون عن فرويد عندما كنت في نيو أورلينز، لكنني لم أقرأه أبداً، وشكسبير لم يقرأه أيضاً. أشك في أن ميلفيل قرأه، وأنا متأكد أن موبي ديك لم يقرأه».
ينتحر همنغواي في تموز 1961، ويعلق جون شتاينبك على موته: «لقد كان مغروراً جداً.. خلق صورة مثالية لنفسه ثم حاول أن يعيشها. أنا حزين لموته. لم أكن أعرفه جيداً. التقينا عدداً قليلاً من المرات، وكان دائمً لطيفاً معي، رغم أني سمعت أنه لا يتحدث كثيراً بالخير عن أعمالي في مجالسه الخاصة». وتنتهي فيما بعد حياة جون شتاينبك بالانتحار أيضاً، مع رسالة تدين الحروب في العالم.
رغم أن فلاديمير نابوكوف روسي الأصل، إلا أنه درس في جامعة كمبريدج الأدبين الروسي والفرنسي، وعاش في برلين أكثر من خمسة عشر عاماً، ومنح الجنسية الأمريكية. يسأله أحدهم عن الكتاب الأمريكيين الذين يعجب بهم، فيجيب: «كنت معجباً ببو، ولا زلت أحب ميلفيل، أما مشاعري تجاه جيمس فهي معقدة. في الواقع فإنني أكرهه. هاوثورن كاتب عظيم، وشعر إيمرسون رائع»، ولا يجد نابوكوف نفسه إلا وقد أعلن بأنه لا يعجب بأفلاطون.
يرى النقاد في توني موريسون مثيلة لجويس وفوكنر بين الكتاب السود، لأنها تستكشف حياة الأمريكيين السود بلغة رفيعة متفوقة. نالت موريسون جائزة بوليتزر عام 1988 وجائزة نوبل عام 1992. تقول بأنها تعي العنف الرهيب في العالم، وتنتقد تصوير بعض الكتاب لعالم السود، فهي تجد أن فوكنر كان ممتازاً في وصف السود، وهمنغواي أبدع في وصفهم أحياناً وأخفق أخرى. أما مارك توين فقد فضح الأيديولوجيا العنصرية، في حين أن إدغار آلان بو أحب الفوقية البيضاء، وأراد أن يصبح جنتلمان، ويتسيد، فاتجه نحو العنصرية.
لم يعد ماركيز – كما يقول – يقرأ الروايات، بل الكثير من المذكرات والوثائق، حتى ولو كانت مزورة، ويعيد أيضاً قراءة كتبه المفضلة. ويشرح ذلك قائلاً: «تخليت عن تلك الفكرة المقدسة بعدم قراءة شيء عدا الأدب. أقرأ كل شيء. أحاول أن أستمر في الاطلاع على ما يجري. أقرأ كل المجلات الهامة، من كل أنحاء العالم كل أسبوع». وتكون الشهرة في نظر ماركيز مدمرة، لأنها تغزو الحياة الخاصة، وتعزل الكاتب عن العالم الحقيقي. فالكاتب الشهير «الذي يستمر في الكتابة، عليه أن يدافع عن نفسه باستمرار ضد الشهرة. لا أحب أن أقول هذه الأشياء لأنها قد لا تبدو صادقة، لكنني فعلاً كنت أفضل لو أن كتبي نشرت بعد موتي». في الحوار نفسه يقول ماركيز: «منذ لحظة كتابة (أوراق في العاصفة) أدركت أنني أردت أن أصبح كاتباً وأنه ليس بإمكان لأحد أن يوقفني، وأن الشيء الوحيد الذي علي فعله، هو أن أصبح أفضل كاتب في العالم».
وقف المكسيكي أوكتافيو باث ضد بروتون وتروتسكي، رغم إعجابه بهما. أما نيرودا فكان ملهمه، لذلك فقد أرسل إليه نسخة من أحد كتبه. أصبحا صديقين، ثم تخاصما. يقول أوكتافيو باث: «كان نيرودا كريماً جداً، لكنه مسيطر جداً أيضاً. ربما كنت مستقلاً جداً وغيوراً على استقلالي الذاتي.. المشكلة الثانية كانت سياسية. كان ه يصبح ستالينياً بشكل متزايد، بينما أصبحت أنا أكره ستالين أكثر فأكثر.. وأخيراً اختصمنا.. – كدنا نتعارك جسدياً – ولم يعد أحدنا يكلم الآخر. كتب أشياء ليست لطيفة عني، بما في ذلك قصيدة بذيئة.. كتب أشياء رهيبة عنه. وهذا ما كان».
ضم كتاب (متعة المتخيل) حوارات مع شخصيات أخرى: مايا أنجيلو، ماريو فارغاس يوسا، آلان غروب غرييه، غونتر غراس، وأخيراً ميلان كونديرا. وقد قام بترجمة الحوارات وتحريرها الدكتور نايف الياسين، وصدرت عن دار التكوين في دمشق.