القرقعات المروعة لبائعي اسطوانات الغاز, نداءات بائعي الخضار والفواكه عبر مكبرات الصوت , أصوات غريبة مبهمة لا قرار لها ولا جواب تخدش الآذان وتنفر الأرواح, صوت آلة الجلخ المنبعث من دكان الحداد البعيدة قليلاً , حرارة الصيف الناقمة وجهاز التكييف الذي يلعن ساعة تركيبه في هذا البيت , ولو أنه عرف سبب عدم تشغيله لانبرى شاكياً : طالما أنهم يعرفون أن لا قدرة لديهم على تشغيلي فلماذا قبلوني هدية ! آه لو أنني أهديت إلى صاحب منزل في منطقة لا ينقطع فيها التيار ولا تشكل الفاتورة عبئاً على صاحبها .
يشتد وهج القيظ الضاري فيكوي الروح والجسد .. الهروب الهروب! لكن إلى أين ؟ إلى جمعية المتقاعدين ! هه وماذا هنالك غير طقطقات النرد وخبط أيادي لاعبي الورق على الطاولات وسحب أدخنة النراجيل والسجائر .. ماذا لو كان في مبنى الجمعية ذاك الكبير أجنحة مخصصة لممارسة هوايات وأنشطة المتقاعدين الذين حالت الوظيفة بينهم وبين تحقيق رغباتهم التي بقيت أمنية حميمة دفينة في النفس تئن لوعة وأسى : هل المتقاعد بات كتلك الشجرة المرطاء بلا ظل يؤنس ولا حفيف أوراق يبهج ! قهقه في سره قهقة مهزوم أراد أخفاء هزيمته . إذاً هيا إلى الحديقة العامة .. لكن الوصول إليها يتطلب أخذ ( سرفيسين ) وربما لا تجد مقعداً شاغراً والجلوس على العشب ممنوع ... آه ما أروع تلك الأيام يوم كانت النزهة لا تكلفك سوى أن تتأبط بساطاً صغيراً وتحمل ( بابور الكاز ) وإبريق الشاي وتقطع عرض الشارع فتستقبلك بساتين المشمش والجوز والتين والزيتون والرمان ... لعل ( مالتوس ) محق في نظريته !! لكن هل الموت أرحم وسعر المتر المربع للقبر أغلى من سعره للبيوت فالقبر الشعبي لا يقل سعره عن مئتي ألف ليرة سورية . أما القبر الارستقراطي ضعف ذلك أو أكثر . هذا عدا تكاليف التشييع والدفن وقبول التعازي و ...
ارتفعت حدة الضجيج في الخارج فاختلطت أصوات أبواق السيارات بأصوات صفارات شرطة المرور وأصوات أخرى لتشكل هارموني الضجر .. نظر من النافذة .. سيارة شاحنة معرقلة السير خلفت وراءها حشوداً من السيارات والماره والدراجات , رجال المرور يركضون من هنا إلى هناك يصفرون ويصرخون ( رجاع – حرك – خالص روح ) على الرصيف المقابل تحولق أناس حول عربة بائع الفلافل ينتظرون سندويشاتهم لوجبة الغداء , بجانبها عربة بائع ( الفشافيش والسقاسيق المشوية ) وإلى الأمام قليلاً ( الكشك ) الذي تنبعث منه أصوات مغنين أصبحوا نجوماً بقدرة قادر . أغلق النافذة وأسدل ستارها , وبحركة نزقة ضغط مفتاح تشغيل المكيف قائلاً : ( إذا ما خربت ما بتعمر ) . استلقى على ( الصوفايه ) وراح الهواء البارد المنعش يسري في شرايينه موقظا تلك العواطف الهاجعة لتحوم روحه فوق وبين أزقة الحارة القديمة حارة مسقط رأسه .. مسجد الحارة والبحرة تتوسط صحنه المحاط بأشجار النارنج والكباد .. صوت أبو ( صطيف ) مؤذن الجامع وترتيله تسابيح ما قبل آذان الفجر بصوته الرخيم الذي يحملك في عباب غيمة بيضاء إلى ملكوت المبدع الخلاق .. دكان الفوال ( أبو عزو ) والأبخرة المتصاعدة من قدور الفول المدمس والحمص .. في الجهة المقابلة أبو نعيم الحائك خلف نوله الخشبي وقطع من الحرير والبروكار وأقمشة أخرى معلقة على الحبل . تابعت روحه تحليقها لتحط به في بيت أهله القديم والذي استملك لصالح المحافظة وهجر منذ سنين بعد وفاة الوالدين . فجأة نهض وكأنه تذكر شيً كان مفقودا ( لمَ لا أحيي ذلك البيت وأمارس فيه عزلتي بالكتابة والقراءة والعزف على ألة الكمان ؟ وإذا ما طلب مني أخلاؤه سأنصاع للأمر ململماً أمنياتي وأعود مغلوباً مقهوراً مدحورا ) .
هنا في أول الحارة كان بيت ( أبو عبدو ) الحذاء الذي يقبع في مكانه الآن بناء بأربعة طوابق وقد علم فيما بعد أن لأبي عبدو شقة في هذا البناء إضافة إلى محل كبير لبيع الأحذية . تابع السير شارد الذهن ( أناس تستملك بيوتهم ويصبحون مستأجرين وأناس يقبضون الملايين يا لها من معادلة عسيرة الفهم ) . رائحة البخور المنبعثة من مقام سيدنا ( الياقوتي ) المعروف عنه - أن سطل الماء تحول إلى ياقوت بين يديه – أيقظته من شروده ليشاهد امرأة ممسكة بقضبان شباك المقام متضرعة فيما تتضرع, ابتسم ابتسامة بائسة ثم تابع سيره ليتوقف عند ذلك البيت الذي له فيه ذكرى لا تنمحي من باله وربما من بال أجيال قادمه. يومها كان أبن أربعة عشر عاماًُ حيث أشيع أن كنزاً ثميناً يرقد في مكان من هذا البيت . بدأ البحث عن الكنز بإشراف المشعوذ (أبو الهوالك) المعروف عنه أنه صرع وأهلك نفراً من كفار الجن. راح الولد يراقب ما يجري بشغف ودهشة , فتارة يستمع إلى حديث الشيخ مع الجني الذي يظهر له في كأس الماء ( أجبني شمروخ بحق مالوخ وفالوخ وبطروخ ) وتارة إلى الرجلين اللذين يقومان بعملية الحفر. وبينما الحالة تلك وفجأة صرخ الحفار شاهراً فأسه ( اخرجوا اخرجوا يا سارقي كنوزنا ) متجهاً نحو الشيخ ليتابع الحفر في رأسه لكن لطف الله كان أكبر فقد أختطف الأخر الفأس من يدي صديقه قبل أن يهوي بها على رأس المشعوذ . على الفور أخرج أبو الهوالك صحناً خزفياً أبيض وريشة طويلة ضخمه , - عرف الصبي فيما بعد أنها من طائر اللقلق – ومحبرة وراح يكتب أشياء غير مقروءة في قعر الصحن , ثم سكب قليلاً من الماء وبحركة قوية سريعة رشق وجه الحفار فاستعاد وعيه بعد أن أحرق أبو الهوالك الجني المجوسي الذي تلبس الحفار . أنصرف الرجلان وبقي الغلام يساعد الشيخ بلملمة أغراضه حاشراً نفسه بأسئلة عن كل ما يقع نظره عليه من أغراض الشيخ كالريشة والبخور والزعفران وحصر البان وزهر العناب وكل ما تتطلبه مهنة تحضير ملوك الجان . دهش الولد بما شاهد وسمع وتمنى لو يرى ( شمروخ ) ويكلمه كما كان الشيخ يفعل وقد طلب من أبي الهوالك أن يعلمه ذلك لكن المشعوذ نصحه أن لا يقدم على هذا العمل لأن رأس الغلام لا يتحمل هذا ويُخشى أن يُصاب بالجنون , لكن إصرار الولد وإلحاحه أجبرا لشيخ على البدء بتنفيذ الدرس .
هيا أنظر إلى الماء في الكاس وقل : أحضر شمروخ أحضر شمروخ
كرر الولد : احضر شمروخ ...
كُررت النداءات لكن الولد لم يرَ إلا كأس ماء ليس إلا فأصابه ملل جعله يبتدع كذبة , فادعى أنه رأى شمروخ يرتدي الأبيض ذو لحية بيضاء ويحمل سبحة بيضاء أيضاَ .
الشيخ : كلمه كلمه .
الولد : يطلب مني أن نخرج من البيت وننظر إلى السماء .
الشيخ : هيا إذن
خرج الاثنان وراح الصبي يشرح للشيخ ما يدعي أنه يشاهده .
الولد : يا إلهي ! إن الطيور تغطي السماء , ها هو سرب يحوم فوق رأسي .. في هذه اللحظة فر الولد خشية أن يكتشف الشيخ كذبه , أو لأنه لم يعد يستطع متابعة هذا السيناريو و ... أُشيع الخبر في الحارة فصار حديث الساعة . فلان يروي : أن أبو الهوالك أقسم له بأنه رأى طيوراً وديعة هبطت من السماء واحتضنت الولد وطارت به .. وأخر يروي أن زوجته قالت له ان أم الولد رأت بقايا ريش غريب جميل على ثيابه وآخر وآخر ... وهكذا أنتشر الخبر وأصبح للولد مكانة جليلة عند أهل حارته ومن يومها لقب بـ (سيدنا المخاوي )
صحيح أن هذه الذكرى آنسته لكنها في نفس الوقت جعلته مكتئباً. تابع طريقه ليصل إلى السوق حيث المبنى الحديث الذي ألتهم دكان الفوال ودكاكين أخرى , وقد علم فيما بعد أن أبا عزو أصيب بجلطة دماغية أودت بحياته ألماً على فقدان دكانه مصدر رزقه وأسرته , في الصف المقابل دكان الحائك أبو نعيم الذي أصبح اليوم صالة لبيع الستالايت والدجيتال , إلى جانبه دكان الطراز سعيد الذي قلب إلى صالون حلاقه كتب على واجهته ( احدث القصات الرجاليه – فرزاتشي , سبايكي , فايق من النوم ) .
في البيت بدأ بعملية التنظيف فإذ بالباب يقرع ! فتحه ليفاجأ بامرأة تحمل طفلاً متوسلة قائلة ( دخيلك يا سيدنا المخاوي الولد ممسوس وبحاجة إلى رقية من يديك الكريميتن )
المخاوي: الشخص الذي صار له أخوة من الجن يعينونه على حل بعض المشاكل والأمراض المستعصية كالمُس مثلاً!!