هي سينما تفرض حضور الوعي الكامل أثناء التلقي، وترفع وتيرة التواصل المبني على التفاعل مع كل تفصيل فيها.. سينما تقف في العراء كاشفة كل ما لا يريد متلقي الفضائيات مشاهدته.. كأنها تقدم أفلاماً للتاريخ لا لشباك التذاكر.. هي كذلك، لهذا لا تجد لها متنفساً في صالات العرض السينمائي، فتذهب إلى الأندية والكنائس وتطلب من الناس أن يشاهدوها مجاناً.. سينما تجد من ينفق عليها وقلما وجدت من يشاهدها.. هذا هو التحدي أمام السينما التسجيلية في العالم، من هنا كان لا بد من أن تُحتضن عبر مهرجانات متخصصة أكثر من أن تظل تسير في ظل العربة الأكبر (الفيلم الروائي) فتعرض على هامش المهرجانات أو قبل عرض الأفلام الطويلة.
في دمشق استطاعت مجموعة من الشباب الطموحين تقديم تجربة مماثلة لما يجري في كل أنحاء العالم بشأن الفيلم التسجيلي.. إقامة أيام لعرض هذا النوع من السينما بهدف تحريض الجمهور للاهتمام بهذه الافلام على قدر ما تهتم الأفلام به.. فيلم يطلب العدل. فكانت أيام سينما الواقع.
وعبر أكثر من تظاهرة كانت الأيام مهرجاناً حقيقياً واحتفالاً هاماً على الصعد كافة باستثناء حضور المسؤولين والسفراء ومدعوي المهرجانات الأخرى.. لأن الهدف هنا هو السينما لا المظاهر الاحتفالية والأضواء اللامعة المؤقتة أيضاً.. وهذا ينسجم مع روح الفيلم التسجيلي الباحثة عن تأثير واعي دائم وممتد في عمق شخصية المشاهد،
مع أن كلمة مشاهد لا تنسجم مع دور ووظيفة الفيلم التسجيلي، فهو يخرج من كونه مشاهداً إلى أن يغدو متفاعلاً ومحاوراً جدلياً لما يطرحه هذا النوع من السينما.. وهذا أقصى ما يطمح إليه الفيلم التسجيلي وبعض الأفلام أو بعض صانعي الأفلام الروائية.
أيام سينما الواقع جاءت برعاية هامة جداً من المؤسسة العامة للسينما التي لولاها لظلت تلك الأيام أقل من حلم في أذهان منظميها.. وأعتقد أن المؤسسة بهذه الرعاية قد خطت خطوة هامة باتجاه رعاية واحتضان التجارب الجديدة في السينما السورية وهي الانفتاح على شراكات جديدة بهدف تفعيل السينما وزيادة مساحة حضورها في حياة المواطن السوري. ومع هذا النوع من السينما الجادة التي لا تمالئ ولا تغازل جيوب المشاهدين تكون المؤسسة حقيقة مؤسسة عامة.. منطلقها وهدفها خلق سينما نظيفة. وبسبب الدعم الكبير من قبل المؤسسة لتظاهرة أيام سينما الواقع قامت مجموعة الشباب المنظمين للتظاهرة بشكر مدير عام المؤسسة العامة للسينما في إعلان صريح على صفحات الصحف.
التظاهرة تنظمها شركة إنتاج أفلام تسجيلية (بروأكشن فيلم) ناشئة في الوسط الثقافي السوري، استطاعت خلال أشهر قليلة أن تنجز مجموعة من الأفلام التي جالت العديد من المهرجانات المتخصصة بهذا النوع فعادت بخبرة كبيرة في تنظيم وإدارة المهرجانات وأيام العروض السينمائية فكانت أيام سينما الواقع العام الماضي في دورته الأولى، وهذا العام أيضاً جاءت الدورة الثانية لتؤكد أن هذه التظاهرة ليست طفرة عابرة إنما عمل حقيقي يطمح للامتداد الزمني بقدر ما يطمح للتأثير في الجمهور على أمل أن تكون هناك الكثير من الأفكار التي يمكنها أن تكون أفلاماً سينمائية يوماً ما..
التظاهرة انتقلت إلى كل من حمص وطرطوس، وجميع عروضها كانت مجانية.
الافلام متنوعة من حيث المصدر من دول عدة لكنها جميعاً ذات أهمية استثنائية فمعظمها تم عرضه في العديد من المهرجانات وحصل على جوائز، أو حصل مخرجوها على جوائز عن أفلام أخرى.
استطاعت أيام سينما الواقع أن تلفت النظر إلى الجديد في هذه السينما في العالم وكيف يفكر الناس وصناع السينما التسجيليلة في العالم في رؤية الواقع وتحليل تفاصيله والدخول إلى جزئياته بهدف قراءة ما هو غير معلن عن هذه المجتمعات، ويمثل هذا النوع من الرؤيا منطلق معظم الأفلام كما بدءاً من فيلم الافتتاح (...ولو في الصين) للمخرج الجزائري مالك بنسماعيل فيلم يذهب إلى مدرسة القرية التي انطلقت منها الشرارة الأولى للثورة الجزائرية التي تكللت بالاستقلال وتبدأ الكاميرا تستقرئ الهوية الوطنية للجزائر اليوم.. وعلى امتداد ساعتين ومع الأطفال وأهاليهم نجد أن الهوية الجزائرية لا تزال موضع بحث بعد نصف قرن من الاستقلال.
المسابقة الرسمية
عشرون فيلماً كانت على جدول العروض الرسمية معظمها طويل.. وهذا يعني مبدئياً أنها ليست أفلاماً تجريبية أولية كما هو معتاد عن الفيلم التسجيلي في سورية.. إنها أفلام ناجزة وبعضها استغرق سنة من العمل ليقول فكرة أو يحرض على إعادة التفكير في موضوع ترسخ لدى الناس ففيلم مثل (اسمع صرختي) للبولوني ماتشيك دريغاس يستفيد المخرج من سبع ثواني سينمائية مصورة على شريط لوكالة أنباء وطنية تسجل اللحظات التي أحرق نفسه فيها مواطن بولوني في أيلول العام 1968 أثناء الاحتفال بعيد الحصاد احتجاجاً على شر الطغيان والكراهية والأكاذيب التي تتملك هذا العالم.. هذه هي صرخة الرجل الستيني. ويبين الفيلم أن ذاك الزمن كان قادراً على جعل رجل يملك حساسية إنسانية أن يحرق نفسه احتجاجاً على موقف من العالم والتاريخ، بينما تكاد تنعدم مثل تلك المشاعر عن البشر في هذا الزمن.. فيلم ليس قراءة للماضي القريب إنما غوص في مناطق (تتموت) في ضمير إنسان هذه الأيام.
روائع المهرجانات
تحت هذا العنوان تم عرض ثلاثة أفلام من سويسرا/ روسيا فيلم الأم (جائزة أفضل مخرج جديد) وجائزة أفضل فيلم تسجيلي في مهرجان لايبزغ 2008. وفيلم (رينيه) جائزة أفضل فيلم من الوكالة الأوربية للسينما.
أما فيلم الجراح الانكليزي من بريطانيا، فهو الحاصل على جائزتي أفضل فيلم طويل من مهرجان هوت دوكس2008 وأفضل فيلم عالمي من مهرجان سيلفر دوكس.. فيلم يسخر في العنوان من فيلم المريض الانكليزي الحائز عدة أوسكارات ليذهب برفقة جراح دماغ إلى غرفة العمليات وهناك نتابع الطريقة التي يدير فيها جراحو الدماغ غرف العمليات مستخدمين أدوات سباكة وصيانة أبنية مع الكثير من اللحظات الكوميدية الجارحة نتابع بقلق مصير مريض تجرى له عملية في دماغه وهو صاح.. الفيلم رغم حسه الإنساني الطاغي إلا أننا لا يمكن أن نظل أسيري غرفة العمليات فهو يحرضنا للبحث عن مقارنات أبعد من ذلك تذهب بعضها باتجاه أمراضنا الذاتية وبعضها باتجاه السياسة وكيفية إدارتها في أدمغتها من قبل قادة العالم وهم يقررون مصيرنا.. قراءة أبعد من الفيلم، لكنها نابعة منه.
صوت امرأة
التظاهرة الموازية للعروض الرسمية كانت حول الجندر، حيث أعلنت إدارة المهرجان قبل أشهر عن هذا الموضوع بهدف جذب أفلام تناقش مفهوم المرأة بأدوات السينما.. هكذا تجمعت لديها سبعة أفلام تم عرضها تحت هذا العنوان.. صوت امرأة ورافق التظاهرة ورشة عمل بعنوان المرأة والسينما شاركت فيها مجموعة من الشابات: (رنا زيد، ثناء السبعة، زينة ارحيم، سورية. فاطمة عاشور المغرب. ناديا مهنا، فلسطين. سعاد نوفل، الأردن. نانا فرانك رازموسين، لويز فولر، الدانمارك.
وعلى التوازي من عروض التظاهرة وورشات العمل كانت هناك ورشة عمل صحفية مخصصة للنساء جاءت لتناقش موضوع المرأة والإعلام عبر إصدار نشرة صحفية باللغتين بعنوان وجهة نظر حررتها وأدارتها شابات سبع.
في أحد أفلام هذه التظاهرة تأخذنا المخرجة الدنمركية إيفا مولفاد باتجاه منطقة ذات خصوصية نسوية تملأ أكثر من نصف الكرة الأرضية.. نساء يبحثن عن الديموقراطية، وأين!؟ في أفغانستان ما بعد طالبان. امرأة رشحت نفسها في أول انتخابات ديموقراطية لاختيار ممثلين لمجلس الشعب في أفغانستان..تجربة سياسية ونسوية مميزة ترصدها المخرجة بعين تسجيلية تقرأ عبرها واقع ومصير النساء في المجتمعات الذكورية والنامية..
ملاحظات عن الحرب
أما التظاهرة الذكورية المقابلة فهي أفلام عن الحرب.. حرب يصنعها الرجال في معظم الأحيان.
ضمت هذه التظاهرة خمسة أفلام موضوعها الأساس الحرب منها (أشباح مدينة الشمس) عن أخوين من قادة عصابات هاييتي.. الفيلم يرصد بشر أكثر الأماكن خطورة مستعملاً الإيحاء السياسي حينا والتصريح أحياناً كثيرة.
أما الفيلم السوري المشارك في هذه التظاهرة فهو فيلم محمد ملص القديم (المنام) المصور في مخيمات صبرا وشاتيلا قبل المجزرة.. حكايات عن زمن العمل الفدائي وحياة المخيمات عبر الأحلام.
جائزة المهرجان
خصص المهرجان جائزته الوحيدة لفيلم (هيب هوب المقلاع) للفلسطينية السورية جاكي ريم سلوم. في هذا الفيلم تتابع المخرجة أحد ابتكارات الفلسطينيين في الضفة الغربية وغزة لتجاوز العوائق التي لا تنتهي كل يوم .. إنه المقلاع الذي يقفز فوق كل ما يقف سداً أمام رغباتهم وحاجاتهم.. فيلم ذكي وإنساني.. حقيقي وعميق.. أما الجائزة فهي تصويت الجمهور بعد مشاهدة كل فيلم عبر استمارة بسيطة.. رغم كون الفيلم حاصلاً على عدة جوائز من بيروت وبلجيكا وواشنطن.
أخيراً..
استطاعت تظاهرة أيام سينما الواقع أن تثير المهتمين بفنون التعبير البصري عموماً والفيلمي خصوصاً للبحث عن معادلات إبداعية لرؤاهم.. وفتحت المجال واسعاً لمن يريد استخدام الصورة السينمائية أداة قول لما لا يقال.. هناك الكثير من نوافذ التواصل مع الذات لجعلها تعلن عن نفسها بقوة من جهة ونوافذ تواصل مع جهات إنتاجية قادرة على دعم المشاريع الطموحة.. فهناك أكثر من ثلاثين جهة دعمت ومولت وساهمت في تحويل أيام سينما الواقع من مجرد رغبة عابرة إلى حقيقة واقعية امتدت عبر ثلاث محافظات ومئات المشاهدين وآلاف الأحلام.
بقي أن نقول بأن هذه الحقيقة صنعها: عروة نيربية وديانا الجيرودي وسامر خويص مع طائفة من عشاق السينما.