ففي الوقت الذي يخطر فيه لشاعر أن يتساءل: ما عدد النسمات اللطيفة التي تبتلعها العواصف الشرسة، ولا تسمح لها أن تقول: ها أنا! يمكن أن يتراءى لروائي أن عاشقين تبادلا قبلة، وتبدى لهما أن حبهما أزلي، وتبين بعد أن افترقا أنهما عانقا الأبدية يوماً، ثم محت أحداث حياتهما الطريق إليها، وأمضيا ما تبقى من العمر في البحث عن أبدية ضائعة.
لعل الوقائع هي التي تعطي الوقت طعمه وتخرجه عن تتاليه الحيادي، فإيقاع زمنِ إنسان خائفٍ، يعد الثواني بدقات قلبه، الذي يقرع كطبل، يختلف عن إيقاع زمن رجل مطمئنٍ، يعلك ملله وينفثه في الهواء مع دخان نرجيلته، والزمن تحت قصف طائرة متطورة، تستطيع أن تدمر خلال ثوان ما يمكن لشعب من الشعوب أن يبنيه ويحافظ عليه خلال مئات السنين، يختلف عن الزمن على متن طائرة، تتجه إلى منتجع يجتمع فيه صنّاع الطائرات وصنّاع الحروب وأصحاب القرارت. وزمن المذيع الذي يتحدث عن بلاد يُذبح أبناؤها على ركبتيها، يختلف عن زمن البلاد وعن زمن المذبوحين....
يبدو الزمن في السجون تتالياً بارداً للحديد والإسمنت، وفي الحروب يبدو وكأنه وشاح الحياة الذي تنتزعه أصابع الموت من أيدي القتلى، فيصبح دفتر مراثٍ غير مرئي، يرافق صرخات أمهات تيبّسن في مقلة القهر، ونثرن في الفضاء أغاني تتجول في الهواء، لو أصخت السمع إليها، لعرفت أنها جراحٌ غير مرئية، تبدو عصيّة على الاندمال، ولا أحد غير الزمن يقدر على محوها.
في المدن الكبيرة يبدو الزمن عدّاءً وبهلواناً، تركض الجموع وراءه لتتعرف عليه، فينزلق، ويتحول كالأميبيا، ويتخذ أشكالاً ووجوهاً تتابع الجموع حيالها التذمر أو الاندهاش أو اللامبالاة أو الجنون أو...أو..
•••
استطاع تتالي الزمن غير الحيادي، رغم ما يُظهر من براءة كاذبة، أن يحمل صرخة شاعر سومري. نُقشت الصرخة على لوح طيني ـ صار عمره في هذه السنة: أربعة آلاف وثلاث مائة وخمس وأربعين سنة ـ لتصل إلينا طازجة، وتجعل أصابعنا تتلمس جراح «لكش» المدينة السومرية، بعد أن تعرضت لغزو شنه الملك لوكال أكيزي، تنتهي الصرخة بهذا السؤال: «أي مدينتي، متى تستبدلين بوحشتك أنساً». سؤال يتكرر بصيغة مشابهة ويُنقش فوق ألواح مصنوعة من الطين نفسه بعد غزو الغوتيين الهمج لمملكة أكاد، ويتكرر بعد غزوات لاحقة شنها همج آخرون، على البلاد نفسها، بيد أن السؤال لم يعد يكتب على ألواح الطين ـ ولعل اللوح السومري قد سرق مع ما نهب من آثار ـ ولكنه سؤال لا يزال حياً، يمتزج فيه الوجع والأمل، ويتكثف بين جنباته الوقت، ويحق للكثيرين من أهل الأرض اليوم، نقش السؤال نفسه على جدران معابدهم ومقاهيهم ومختلف أنواع خمارات اليأس التي يرتادونها، ودروب الجنون التي تغويهم، بل حتى على وجه الهواء الذي يتنفسونه بحكم العادة دون أن ينتبهوا إلى أنه موجود أصلاً، ودون انتباه إلى أنه يفسد أكثر فأكثر!
•••
يمكن لأحد ما أن يرى في الزمن حيزاً لبنفسجة، تكتفي بالقليل من الوقت لتترك صورة وأثراً في أرواح روادها أو مريديها.
ويمكن لهذا الــ (أحد ما)، أو لغيره، أن يرى المحيط خائفاً من الغدر، ولهذا يتابع سهره الأزلي ولا يغادر أبداً وعاءه الزمني. يمكن .. ويمكن .. ويمكن .. ما أوسع احتمالات الرؤيا، وما أضيق الزمن اللانهائي على أحلامنا اللانهائية.
إذا كان الحديث عن المحيط أو البنفسجة أو غيرهما من شركائنا في الزمن ليس أكثر من ترف وترهات، فذلك لأن زمننا لا يزال أضيق من القيود الضيقة، التي تحشر فيها الأيادي التي تستطيع أن تشير إلى الزمن الذي يلائم قامة الإنسان، ويتسع لأحلامه.
يمكن للثلاثاءات أن تكون جميلة كأحلام البشر، ويمكن للأربعاءات أن تلعن الإمبراطوريات وأمجادها المغمسة بدم بشرٍ، وآلام وصرخات بشرٍ، ويمكن للخميسات أن تلعن الأباطرة، ويمكن للجمعات أن تكنس الأباطرة وتقوض الإمبراطوريات؛ لا لتبني إمبراطوريات جديدة، ولا لتكرس أباطرة جدداً، يتجاوزون أخطاء أسلافهم، ويصبحون أكثر وحشية في تعليب وتأطير أحلام البشر، وفي إلغاء الناس إلغاءً فيزيائياً وقحاً ومباشراً بأساليب مختلفة ومبتكرة وخسيسة طبعاً.
الزمن يمحو الزمن، ليكتب من جديد نصوصاً لم تخرج بعد عن نطاق ترسيمة (التصفيق المقيت للمنتصر، لا للأقوى ولا للأجمل ولا للأعدل) كيف سيخرج الزمن على تلك الترسيمة البغيضة؟ ومتى سنقدر، نحن سكان الأرض على غسل الزمن مما لحق به من أسلحة وقتلة وسجون ودرك...، وغيرها من الأوساخ التي مازالت تُصنَّع وتُصدَّر باسم الحرية والعدالة وغيرهما من المفاهيم، التي يتابع الأباطرة تعهيرها، لتكون على مقاس سفالاتهم. بحيث يصبح الناس فوق الأرض، قطعاناً لطيفةً، يرون الحرية والعدالة والجمال والقوة مجرد امتداد لشخص الإمبراطور، ومجرد جزء من مقومات الإمبراطورية. وما لا يتوافق مع ذلك ليس أكثر من وهم أو تطرف أو إرهاب أو خيانة أو مخالفة لنواميس التاريخ، الذي سيكف يوماً عن أن يكون سجلاً لأمجاد المنتصرين أو القتلة.