تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


المبدع والناقد في العملية الإبداعية

الملحق الثقافي
7/4/2009
عمران عز الدين أحمد

في مقال للفرنسي « رولان بارت» بعنوان» ما هو النقد.؟

« يقول: « النقد هو خطاب حول خطاب.. أو هو لغة واصفة.» ثمَّ يوضح في ظل ذاك التعريف أن النقد قائم على علاقتين: علاقة الناقد بلغة الكاتب وعلاقة الكاتب بالعالم.‏

مما لا شكَّ فيه بأنَّ المبدع والناقد هما من أهم أركان الأدب والعملية الإبداعية، كلّ وفق تخصصه ورؤاه، وقد لعب كلّ منهما على مرّ العصور والأجيال، دوراً كبيراً وهاماً في الارتقاء بمختلف الفنون والأجناس الأدبية بدءاً وبذائقة الجمهور تالياً، ما أدى إلى وجود قارئ حصيف، متلهف للجديد المبتكر، يميز وفقاً لقناعاته فقط دون ضغوط وإملاءات ذاتية / خارجية بين الغث والسمين في أيّ عمل أدبيّ ما.‏

اتخذت تلك العلاقة بين المبدع والناقد أشكالاً ومسميات مختلفة، من عدوّّين لدودين تارة، إلى شريكين مُكملين لبعضهما البعض تارة أخرى. وما أكثر النصوص الإبداعية الفارهة التي كُتِبَتْ عنها دراسات نقدية متجاوزة، تلك الدراسات النقدية لم تكن تقل مطلقاً عن النص الإبداعي إبداعاً، بل ارّتقت به تأويلاً وتحليلاً واستنطاقاً، فاحتفي بهما وبتوأمة إبداعية بين نصين يكمل أحدهما الآخر. فالناقد المصري» رجاء النقاش» مثلاً، الذي أغنى المكتبة العربية بدراسات وكتب نقدية كثيرة، تصدى لقامات أدبية كبيرة، وساهم في اكتشاف مواهب كان لها الشأن الهام والدور الكبير في رفد الساحة الأدبية صدى وارتقاء، كما فعل مع محمود درويش وسميح القاسم والطيب صالح، بل أنه كتب في عقده الثاني مقدمة ديوان» مدينة بلا قلب» للشاعر أحمد عبدالمعطي حجازي. فكان ناقداً نافذاً يُعتد به وبصواب رأيه، وبكل ما أرخَّ له من دراسات نقدية متجاوزة.‏

تقتصر مهام الناقد، الذي يجب أن يكون قاضياً محايداً، مؤتمناً على العملية الإبداعية، على سعي جاد، حثيث ومنهجي لاستجلاء جماليات النص أو المادة الإبداعية. فلا يروّج لنص تافه أو ضعيف، أو يلغي ويقصي نصاً ما لكاتب ما اعتماداً على لعبة الأنا والأمزجة والأهواء الشخصية، بل يجب أن يكون محركه الأول والأخير هو الكشف والنبش في جوهر العملية الإبداعية. لتساهم دراسته النقدية تلك في إلمام القارئ بأدوات الناقد، ولتساهم تلك الدراسة تالياً في تثقيف القارئ والكاتب تثقيفاً موظفاً ومبرمجاً لاستبيان مواطن الضعف والقوة في النص المنقود، كما أشار إلى ذلك الناقد السعودي «عبدالله الغذامي» في كتابه» النقد الثقافي» وذلك بتوسيع دائرة النقد الأدبيّ ليصبح نقداً ثقافياً لا أدبياً فقط.‏

أتساءل هنا: أين النقاد أمام هذا المد الهائل والطوفان الكبير لإصدارات أدبية يومية فاقت كلّ التصورات والأرقام القياسية.؟ أين النقاد الذين يُفترض بهم أن يأخذوا على عاتقهم فرز الصالح من الطالح بغربلة اصطفائية لتلك الإصدارات.؟ لماذا تحولت الدراسة النقدية التي كانت تكتب في مجلدات ممنهجة وكتب نوعية إلى مواد صحفية انطباعية وهي إما مجاملاتية أو ترويجية يحكمها قانون العرض والطلب.؟ وهل نعاني حقيقة أزمة في النقد على الرغم من وجود نقاد كِبار أمثال: صلاح فضل وعبدالملك مرتاض ومحمد برادة وجابر عصفور وأسماء كثيرة أخرى.؟ ثمَّ لماذا تخلى النقاد عن الدور المنوط بهم لقراء وصحفيين تقتصر مهمتهم فقط على التعريف بكِتاب ما أو باسم لكاتب ما في مطبوعة يومية وما يستتبع هذا الأمر من محاباة وتصفية حسابات في السر والعلن.؟!‏

الأمر المسلم به، أنَّه ثمة أدب قديم وثمة أدب حديث أيضاً. ثمة ساحة أدبية وثمة كُتَّاب أيضاً.. ثمة أفكار وثمة أسلوب، فـــ» الأسلوب هو الرجل» كما يقول بيفون. لكن ثمة « فوبيا»، خوف أَزليّ بين المُبدعين والنقاد أو ممن يطلق عليهم بـ المُحْبِطين، خوف المبدع من ظهور مُحْبِطٍ ينهيه وينهي مسيرته الإبداعية بالضربة القاضية وبجرة قلم كما يقال، وكذلك خوف المُحْبِط من ظهور مبدع لا يمتلك الأول الأدوات النقدية والفضائحية كي يجمد إبداع الثاني ويصيبه بالترهل، بخلخلة بنيان أدبه الفني والجمالي. وهنا بالذات يشتدّ أوار المعركة بينهما، بأدوات وطرق مختلفة نوعاً ما، تاريخية وعصرية، لكن أَدبية غالباً، وساحة المعركة بينهما هي وسائل الإعلام، بكلّ فروعها ومجالاتها، مرئية وسمعية وكتابية.‏

المشكلة لا تكمن بين الكاتب المبدع والناقد المحترف، بل أُسّ المشكلة يكمن في مزاولة بعض الصحفيين الهواة لمهام الناقد، دون دربة ووعي وتبصر، ففي بعض المجلات والصحف، محلية كانت أم عربية، يكون كاتب المقال أو المادة الصحفية بهلواناً وفهلوياً معنى ووصفاً، شكلاً ومضموناً، تجتمع فيه كلّ الأضداد لكلّ النعوت والصفات دفعة واحدة، كأن يكون ناقداً ومنظراً مرة، ومبدعاً في الرواية أو القصة أو الشعر مرة أخرى، فَيُحار بأمره، إذْ يبدو ملتزماً ومنفتحاً.. دمثاً وعابساً.. حازماً ومجاملاً في الآن ذاته. هذه الظاهرة قد تكون صحية بنسبٍ متفاوتة في بعض من وجوهها، لكنها تغدو مبعثاً للحيرة والتساؤل في جوانب أخرى.‏

تقرأ مثلاً في صحيفة من تلك الصحف مقالاً ساخطاً لأحد الكُتَّاب، يدعو فيه إلى إعدام الأدب، يشن ثورة على النتاجات الهزيلة المعروضة للكُتَّاب، بذريعة خلو الساحة الأدبية من الأدباء، تتعدّد نعوته وأوصافه لهم، من إمعات ومساخيط وأشباه كُتَّاب، مستعرضاً ثقافته الغربية حيناً، وعدم مواكبة / معرفة المبدع بالمدارس النقدية حيناً آخر. تنصرف عن قراءة المقال ذاك، خوفاً من التطير، وتسرب روحه التشاؤمية والثورية إلى ثنايا ضلوعك، تقلب صفحات جريدة أخرى، صادرة في الصباح ذاته، فتبصر في زاوية من زوايا تلك الجريدة بخطّ عريض وعنوان بارق مقالاً نقدياً للناقد والصحفي ذاته، موسوم بـ : الكاتب الفلاني رائد للتحديث والتجديد، ويضيف مناقضاً ما كتبه في مقاله السالف الذكر: بأنَّ نبع الأدب الدافق لن ينضب بوجود كاتب كالذي اَستشهد به، مُحَذِراً من أولئك الكُتَّاب ومزاعمهم الهدامة بتسريب الفكر الغربي تحت باب الغزو الثقافي اللاشرعي للأدب العربي، ثمّ يصرخ قائلاً: ينبغي الإلمام بالأدب القديم ـ أيّ التراث والفلكلور الأدبيين ـ بالارتكاز والاتكاء عليهما، وهذا ما يسمى بالخلفية الثقافية. فمن غير المعقول - والكلام مازال له- أنْ تكون كاتباً محترفاً دون أن تكون قد قرأتَ وحفظتَ أمهات الكتب « ألف ليلة وليلة ـ السيرة الهلالية ـ معلقات الشعر ـ الأدب الشعبي ـ ألفية ابن مالك ـ مقدمة ابن خلدون.». وينهي مقاله ناصحاً وواعظاً الكُتَّاب والقراء على حد سواء: ينبغي الإلمام بالمدارس والنظريات القديمة والحديثة كي ترتكب مادة إبداعية في أيّ جنس أَدبي من أجناس الأدب المتعارف على تصنيفها حتى اليوم، من باب التنظير والتصنيف أولاً وآخراً ، ليتخذ بعد ذلك ما يرتكبه الكُتَّاب المجدّدون من أدب عندهم ـ أيّ عند كِبار الأدباء والعُتاة وهو منهم طبعاًـ تجاوزاً وعلى مضض مسمى الأدب الحديث، بعصرنته وتكثيفه وبُعده عن المباشرة والتقليدية والكلاسيكية والخطابية الهشة.‏

وهذا لعمري قول حسن طبعاً، لا يختلف مبدعان على الأرض في نقطة كهذه أبداً ومطلقاً، لكنَّ المقلق في الأمر هو التخصّص في نوع من الأدب دون التنوع، والتأثر المَرَضي ـ إن جاز التعبير ـ عند بعض الكُتَّاب ببعض من الكُتَّاب ممن اتخذوا عندهم صفة التأليه والتقديس دون التأثير في الأجيال التالية لجيلهم والتزود بمختلف الآداب والفنون.‏

ففي كِتَاب» في غابة المرآة» لـ « ألبرتو مانغويل» تحليل وتشخيص لفئات من هذا النوع من المنظرين أو النقاد وحتى الكُتَّاب، ممن تتوقف ذواكرهم في محطة معينة من محطات قراءاتهم / قناعاتهم، من منطلق فوبيا تنوع القراءات، أولئك الذين تجمدت قراءاتهم في كتب معينة بذاتها، نقدية كانت أو إبداعية، فاتخذوا منها معايير ومقاييس للحكم بالرداءة والإقصاء على كلّ ما يتعارض مع تلك القراءات، بما تخلفه من انطباعات ذاتية وبلبلة غير موظفة.!‏

بين كاتب متذمر كذاك، امتهن الصحافة، ويتاجر بالمقال الصحفي، يطلق الأحكام جهاراً نهاراً، دون حسيب أو رقيب، بمسخ من يحلو له من الكُتَّاب، ورفع قدر وشأن كُتَّاب آخرين، وبين كُتَّاب ونقاد «لا يعجبهم العجب ولا الصيام في رجب.» يضيع الكاتب، ويضيع القارئ أيضاً، تفتقد المادة الإبداعية سطوتها وجذوتها، يُكرز بالتالي لأدب مزاجي ومُراوح، من سماته الضحالة والجدب، تختلّ العملية الإبداعية باختلال أركانها وشركائها، فتصاب الأنشطة الثقافية والإبداعية بالفتور والضمور، الأمر الذي يدعو للقيام من جديد بمعركة بين هذين القطبين، المُبدعين والمُحْبِطين، تتوالى المعارك، بين منتصر ومنهزم، خدمة للمادة الإبداعية، بدورها... تنتشي الصحافة بصراع كهذا، ومواد صحفية من هذا النوع، فتُحرق الأعصاب، ويهرق كثير من الحبر، و... يُحَفَز الكُتّاب للكتابة من جديد.‏

تعليقات الزوار

نورس |  nzn@maktoob.com | 22/04/2009 16:18

مجرد تهنئة عمران

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية