|
محمود أمين العالم الملحق الثقافي
ومثل من كنا بصحبتهم، كان كل منا يلتهم سندويشة الفلافل أمام مطعم لبناني. وبعد العشاء الفاخر وقوفاً، لم يمنعنا الرذاذ ولا سفعات النسيم القارسة من أن نخبط خبط عشواء في الشوارع اللامعة البهيجة التي بدت كأنها في احتفال. وكما هو متوقع، تعلق الحديث في أوله بكتاب (الأدب والأيديولوجيا في سورية) والذي كان قد صدر عام 1974 لبو علي ياسين ولي. ومن هذا الكتاب أسرع الحديث إلى سلفه الذي أصدره عام 1955 محمود أمين العالم وعبد العظيم أنيس، وقدم له حسين مروة، وهو كتاب (في الثقافة المصرية). وكما كان السلف هدفاً لهجوم كثيرين، منهم العقاد وطه حسين، كان الخلف أيضاً هدفاً لهجوم هاني الراهب وممدوح عدوان وزكريا تامر وسواهم. وهكذا جاء كتاب (معارك ثقافية في سورية) عام 1980، مجدداً ذكر كتاب العالم (معارك فكرية) ولكن في مصر. كانت باريس قد ألجأت محمود أمين العالم وغالي شكري وأحمد عبد المعطي حجازي وسواهم ممن شردتهم حملة السادات الشهيرة على المثقفين المعارضين. وقبل أن يتجدد اللقاء بمحمود أمين العالم كنت قد تابعت معاركه الفكرية مع أنور عبد الملك، كما قرأت متأخراً أطروحته للماجستير (فلسفة المصادفة). ولكن الأهم هو ما كان قد بدأ من التحول الباذخ للعالم في النقد الأدبي وفي الفكر، مما سيزداد عمقاً وتألقاً فيما تلا من حياته المديدة الخصيبة، وحسبي أن أذكر هنا كتابه الذي جاء قبل خمسة عشر عاماً (أربعون عاماً من النقد التطبيقي). أما لقاؤنا الثاني فقد كان في قابس التونسية بصحبة عبد الرحمن منيف ويمنى العيد وعبد الرحمن مجيد الربيعي ومحمد الباردي وسواهم ممن ضمهم ذلك المؤتمر المميز حول الرواية العربية في صيف 1985. وقد صدرت عام 1986 مساهمة العالم ومساهمة يمنى العيد ومساهمتي في المؤتمر، في طبعة واحدة من كتاب مشترك هو (الرواية العربية بين الواقع والأيديولوجيا). طوال المؤتمر دأبت على مشاكسة محمود أمين العالم كل مساء بعد انتهاء الجلسات العلمية. ففي عشاء رسمي ألزمته بالجلوس إلى جانب الوالي (المحافظ) لأبعده عن الحلوة الوحيدة في المؤتمر، وأنفرد بقربها، وهو يتميز غيظاً. وفي ذيول كل سهرة، كنا نتحلق حول المسبح في نزل (أوتيل) شمس، حتى إذا أعجز النعاس أحدهم وانسحب، بدأت بتأبينه، وتدافع الآخرون إلى الترحم عليه والإفاضة في ذكر محاسنه التي أقلبها مساؤى. وسرعان ما بدا أن محمود أمين العالم ما عاد يقوى على مقاومة النعاس، ولا هو يجرؤ على الانسحاب، خشية ألسنتنا، فالعالم يتطير كما سنكتشف في اليوم التالي، ولكن ذلك لم يحمه من مكيدتي التي ذهبت مثلاً في أكثر من مؤتمر تال، في غير عاصمة عربية. أما محمود أمين العالم فقد ظل الصدر الدافئ والعامر بالمودة، كما ظل الضحكة المجلجلة والحيوية الدافقة التي لا تعبأ بالسنين. ولست أدري كيف ستكون زيارتي ذات يوم لمصر في غيابه الذي تضاعفت وطأته على الروح إذ تثنى بغياب يوسف أبو رية وتثّلث بغياب عبد العظيم أنيس و.. والسلام على السابقين، والرحمة على اللاحقين.
|