ففي ذكرى التأسيس، في عامه الثاني والستين، لا بدّ أن تستدعي قراءة فكر القائد الراحل مجدداً، شيئاً من الإمعان في المعاني التي تضمنتها، على مدى سنوات طويلة.
في هذا السياق، أستذكر من أقوال القائد الخالد الرئيس حافظ الأسد، يوم كان الأمين العام للحزب، حزب البعث العربي الاشتراكي، أن «الحزبية مسؤولية وليست امتيازاً». ولخصوصية الرسالة التي حملها الحزب عبر مسيرته تفهم مستلزمات الانتماء إليه، وصولاً إلى اليوم المرتجى، يوم تتحقق أقانيمه الثلاثة: الوحدة والحرية والاشتراكية. لقد ربط الحزب النضال الوطني والقومي بالنضال الاشتراكي العالمي، وذلك من منطلق استشراف مستقبل المنطقة العربية بكامل أبعادها الجغرافية، وأيضاً في السياق المتصل بالمفاهيم الثورية خصوصاً لجهة الارتقاء بدول ما كان وما يزال يسمى إلى يومنا هذا بدول الجنوب أو دول العالم الثالث.
ومن هنا جاء قول القائد الخالد محذراً من مغبة التعارض بين الالتزام بالعمل الحزبي وعدمه، فنبّه إلى أن « كل ما من شأنه أن يتعارض مع روح الحزب» يتخطى أخلاقياته والقيم التي ساهمت في تأسيسه. ولأنه لم يفقد ثقته يوماً بقدرة أبناء الشعب على تبنّي ما تعنيه الأخلاقيات والقيم جاء قوله «نحن متفائلون لأن كل شيء في حزبنا يتحرك إلى الأمام بسرعة وثبات».
نستذكر هذا القول اليوم، احتفاء بذكرى التأسيس, لنؤكد على فشل المراهنات العديدة التي استهدفت مصير الحزب, في أزمنة صعبة رافقت تنامي مسيرته، واستطاع أن يتخطى منعطفاتها، بتقديم التضحيات الكبيرة، وبينها أبناء شعبنا الذين لم يبخلوا حتى بدمائهم كلما تطلب الأمر وقفة صمود.
ولهذا الاعتبار، أكد القائد الخالد مخاطباً أبناء شعبه «نحن البعثيين يحق لنا أن نعتز وأن نفخر، فقد كان حزبنا طليعياً في التخطيط لحرب تشرين، وفي تنفيذ حرب تشرين، في التخطيط لحرب الجولان، وفي تنفيذ حرب الجولان، لأن جيشنا هو جيش البعث، ولأن جماهيرنا هي جماهير البعث».
وبطبيعة الحال، فإن حزباً لا يمكن أن يكون له حضوره على هذا المستوى، مستوى تقديم أغلى ما يملك أبناؤه في الأوقات التي تتطلب البذل والعطاء، إلا إذا كانت جذوره راسخة في أرض وطنه، إلا إذا كان انبثاقه من عمق التاريخ استجابة لنداء الأرض والتاريخ معاً. ومن هنا، على هذه الأرضية انبثق البعث، فكراً وممارسة، فأقبلت عليه جماهيرنا لأنها وجدت فيه التعبير الصادق عن أمانيها.
لقد واجه حزبنا، منذ نشأته، سلسلة من المعارك وانتصر عليها، وهزم المخططين للنيل من مسيرته ومن صموده، وبذلك ازداد رسوخاً، ومن ثم تجذرت رسالته الوطنية والقومية أكثر فأكثر مع تفجر ثورة آذار وقيام الحركة التصحيحية في ستينات وسبعينات القرن الماضي.
وفي إشارة القائد الخالد إلى الحركة التصحيحية جاء قوله «لقد وضعنا نصب أعيننا هدفاً رئيسياً من الأهداف التي حددها بيان القيادة القطرية لحزب البعث العربي الاشتراكي آنذاك، وكان الهدف بالذات تطبيقاً لمبدأ من مبادئ حزبنا العظيم الذي جعل من بناء الديمقراطية الشعبية محور العمل السياسي الداخلي، انطلاقاً من الإيمان بقيمة الإنسان، وبواجب الحفاظ على حريته وصون كرامته، وآخذاً بعين الاعتبار أن حرية الفرد ترتبط بحرية المجتمع».
فهل، بعد ذلك، ثمة ما يستوجب التساؤل عن رسالة الحزب وأهدافه في ضوء سياسته الواضحة على كل صعيد، منذ تاريخ التأسيس حتى اليوم؟
إن سورية اليوم، ليست سورية التي كانت تعاني في وقت من الأوقات من نتائج تقلبات الأجواء السياسية التقليدية، بعيداً عن تطلعات جماهيرها التي ناضلت طويلاً وقدمت الضحايا بالمئات والآلاف وصولاً إلى يوم الاستقلال، وإنما هي اليوم، وتحديداً في عهدة رئيسنا الشاب الدكتور بشار الأسد، سورية القرار الوطني والكلمة الفصل في القضايا التي تمسّ واقع ومستقبل الجماهير العربية، داخل حدود الوطن وخارجها. ومن هنا فإن دورها يكتسب يوماً بعد يوم، يكتسب بعداً قومياً واضحاً كل الوضوح، ولا تستطيع أن تتخلى عنه، بل «ولا ترغب في أن تتخلى عنه» على حدّ تعبير القائد الراحل.
بمثل هذا التصميم، يمضي حزبنا العظيم في تنمية الشخصية الوطنية والشخصية القومية على حدّ سواء لأن مثل هذه التنمية، كما أضاف القائد الخالد «نوفر المزيد من الإدراك لواقعنا ومستقبلنا». ولا نعتقد أن فقدان عامل الإدراك، يمكن أن يساعد في تنمية أيّ من المقومات التي يبنى عليها الوطن.
انطلاقاً من هذه القناعة واجهت بلادنا, وتواجه في كل يوم على وجه التقريب، عقبة من العقبات التي يجري التخطيط لها على درب مسيرتها النهضوية والتاريخية، ولكنها لا تتخلى عن واجبها، على نحو ما عبّر عنه القائد الراحل بقوله «إننا لن نخذل الأمة التي وضعت فينا ثقتها وأملها». تلك هي رسالتها سورية الوطنية والقومية التي تجسدت خلال مسيرة الحزب الذي ستبقى مبادئه وقراراته «المرشد الأمين للطبقة العاملة في سياق مسيرتها، وهذا يقتضي من القيادات النقابية أن تركز على التثقيف والتوعية والتوجيه في ضوء مبادئ الحزب ومقرراته ومؤتمراته وقرارات قياداته في المعاهد النقابية والمعامل وفي كل تجمّع عمّالي». وما ينطبق هنا على الطبقة العاملة، بالمعنى الحرفي لهذه العبارة، كما نتفهّم القول، ينطبق على مختلف الشرائح والفئات الأخرى العاملة في الوطن، لأن الحزب، هو حزب الشعب بمتخلف فئاته، مدنيين وعسكريين معاً.
وفي سياق الخيارات التي توقف عندها القائد الخالد مرات عدة، كان خيار الاشتراكية لأنه، كما قال «الطريق الأكيد نحو مجتمع نقضي فيه على مظاهر الاستغلال وعوامله، وما لم نستمر في بناء نظامنا الاشتراكي وتدعيمه فسنظل نعاني أشكالاً شتى من اللاعدالة في أمورنا الحياتية، الأمر الذي يقلل من إمكانات العطاء وفرص الخلق والإبداع».
بمثل هذه الرؤية الشاملة، حدّد القائد الراحل الرئيس حافظ الأسد، حدّد آفاق العمل من أجل المستقبل. وحين كان يتحدث عن فرص الخلق والإبداع، كان ينمي لدى أبناء الوطن شعوراً بالمسؤولية من نوع خاص، لأن الإبداع في العمل، مع توافر إمكانات العطاء في المجتمع المتجانس، هو سبيله إلى التطور وبلوغ الأهداف المرسومة على درب العطاء، وإلا استحال على المجتمع أن يتخطى حدود التقليد واجترار الذات والمراوحة في المكان. إن بلورة الأهداف، وبرمجة الجهود التي تبذل وصولاً بالوطن إلى نهاية الدرب أو مقاربتها، لا بدّ أن تحقق ما هو مرجو من متابعة المسيرة ضمن الخيار الذي يشكل هوية الوطن والمواطن، تلك الهوية التي آمن بها شعبنا العظيم بوقوفه إلى جانب الحزب وقيادته، وهي الحاضنة لمبادئ الوحدة والحرية والاشتراكية.
تأسيسا على أهمية التمسك بهذه المبادئ، كثيراً ما حدد القائد الخالد مكانة البعثي بقوله «إن شرف البعثي، أن يتحمّل المسؤولية ويؤتمن عليها ويبادل الشعب المحبة والثقة والعطاء». ومن منطلق هذه القناعة بأهمية الالتزام بمبادئ الحزب وأخلاقياته وقيمه أضاف «أريد كلّ بعثي قدوة مجتمعه».
في إطار هذه المطالبة تحتضن ذاكرتنا الجماعيّة مواقف أبناء شعبنا الصامد، بقيادة الحزب الرائد، تجاه كل التنازلات وبوادر الاستسلام للأعداء، منعاً للسير في الاتجاه المعاكس للتقدم والتطور ومواصلة المسير. وقد أوضح القائد الراحل عوامل الصمود لدى أبناء شعبنا، باحتضانه قيم الحزب، ووعد بأن يبقى الحزب «الموئل الحصين لكل مواطن عربي شريف، والملجأ الأمين لكل المناضلين، لكل الشرفاء، لكل المعادين للظلم أينما وجد وفي أي زمان». ومن هنا كانت مطالبته بأن يعي الحزب الأوضاع السائدة في المنطقة وأن تبقى كوادره في حالة يقظة عميقة «لكي نحفظ المصير ونضمن بقاء الهوية». ولم يتخط، في هذا الصدد، جانب الخيار فيما يتعلق بترشيح المواطنين لدخول الحزب وهو في السلطة. قال «يجب أن تكون الشروط مناسبة لانتقاء المرشحين لدخول الحزب وهو في السلطة، خشية فتح المجال لتسلل الانتهازيين إليه وهو في السلطة» آخذاً بعين الاعتبار، في الوقت ذاته، أهمية توسيع قاعدة الحزب «لأن الحزب غير القابل للتوسع، تماما كالماء المحصور في بركة يصبح آسنا مع مرور الأيام».
كما أن قائدنا الراحل لم ينف شرف المواطنة عن الذين هم خارج الحزب قائلاً «في كل بلد، يوجد وطنيون وتقدميون لا ينتسبون لأي تنظيم لأسباب مزاجية أو ذاتية عموماً». ويوم خاطب جماهير شعبنا بمختلف أطيافه بقوله «أنا منكم» وضع نفسه في مرتبة أفراده، آخذاً بعين الاعتبار معادلة التشارك مع الآخر دون تمييز بين الجنس أو المعتقد أو المنصب لبناء الوطن والدفاع عن هويته.
كذلك لم تقتصر رؤية القائد الراحل على تقييم حزب بحدّ ذاته، في سياق العمل الجبهوي، وذلك ليقينه بأن لكل حزب من أحزاب الجبهة الوطنية التقدمية، تقاليده ووسائل توضيح أفكاره. وفي سياق هذه الرؤية، استطاع أن يكون الرئيس والقائد لكل أبناء الشعب، واستطاع، في الوقت عينه، أن يجعل من حزب البعث العربي الاشتراكي، حصناً منيعاً، يردّ عن الوطن وأبنائه كل ما يمكن أن يهدّد حاضرهم ومستقبلهم.
إن احتفالنا هذه الأيام بذكرى التأسيس، يعيدنا إلى استذكار أفكار أمينه العام الراحل الرئيس حافظ الأسد الذي طالما عمل من أجل أن يكون الحزب، بأفكاره وبأخلاقياته وقيمه العليا، رسالة الحاضر والمستقبل، ومن هنا جدير بأبناء اليوم أن يحرصوا على قراءتها لأنها سبيلهم إلى غدهم المنشود، غد الطمأنينة والاستقرار والقدرة على مواجهة وهزم من يعتقد أن لديه إمكانية إعادة عجلات التقدم في وطننا إلى الوراء ولو خطوة واحدة.