وحين حرص على ذلك كله كان يربط مفهوم الحرية بالحرية الفردية والوطنية المسؤولة وبحرية الجماعة الواحدة التي تنتمي إلى أرومة العروبة النبيلة البعيدة عن أهواء العصبية والانغلاق، ما يعني تكامل الهوية القوميّة بالمواطنة القطرية في إطار الانتماء التاريخي والحوار الموضوعي. فحرية المواطن في القطر الواحد هي حرية المجموع في الأمة؛ وكل يتأثر بالآخر؛ وإذا فُقدت الحرية هنا أو هناك فُقد التقدم والارتقاء في الأمة كلها.
لهذا كان يدير مفهوم الحرية في إطار الأولويات الكبرى، ما فرض عليه أن يضع نفسه في خدمة قضية فلسطين قضية العرب الأولى، بوصفها السياق التاريخي المعاصر والمعبر عن حيوية الأمة وقدرتها على إدارة حركة وحدة الصراع.
وحينما أصر على هذا الوعي بالأحداث التاريخية كان يعمد إلى ربط النظرية بالتطبيق مبتعداً عن الاسترسال الإنشائي واللغة الخطابية، فالتطبيق أساس اختبار صحة الأفكار والآراء لديه.
لهذا وضع تصوره الدقيق حول قضية فلسطين إذ أدرك منذ اللحظة الأولى أن زراعة الكيان الصهيوني في قلب الأمة العربية كان يرمي إلى إجهاض المشروع العربي النهضوي التحرري؛ ولاسيما حين أيقن بأن مؤسسي الصهيونية الجديدة لا يؤمنون بحق الآخر بالحياة والوجود، فهم يعتمدون مبدأ السيطرة على الأرض ونفي الآخر، واستئصاله بالقتل والترويع وتدمير الحياة لديه، وفق فكرة الأغيار التي زرعتها مفاهيم التوراة والتلمود في ذهن الشعب اليهودي، ووفق ما قام به مؤسسو الكيان الصهيوني ولاسيما (هرتزل). فمؤسسو هذا الكيان لم يؤمنوا يوماً بحق العربي الفلسطيني في فلسطين، ومن ثم لم يؤمنوا يوماً ما بمفهوم السلام مع الآخر. وكذلك هم الصهاينة، اليوم وكل يوم، لا يعيشون إلا على قتل العربي وسرقة أرضه وتراثه وعادته.
وبناء عليه فحين ظهرت حركة البعث العربي الاشتراكي في مطلع الأربعينيات من القرن العشرين كانت تتبنى أهداف الأمة العربية ورسالتها في الحياة الحرة الكريمة... آمنت بأن الأمة العربية قادرة على تحقيق وحدتها وصناعة نهضتها وتقدمها وسيادتها إذ بلغت مرحلة النضج، بعد أن مَرَّت بتجارب تاريخية عظيمة تمثلت باتفاقية (سايكس بيكو 15/5/1916م) وبالاحتلال الأوربي للوطن العربي الذي تركه مجزأ متخلفاً... ومن ثم أضحى أرباب الفكر والسياسة قادرين على إثارة الجماهير وقيادتها إلى امتلاك زمام أمرها ـ على نحو كبير ـ ما يعني أن الحركة الثقافية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية بدأت تتجه إلى هدفها بوضوح ودقة لتحقيق مصلحة الأمة في إطار تأسيس الخيارات العربية الراهنة والمستقبلية وفي إطار تلازم النضالين الوحدوي والتحرري.
وبناء عليه فقد كانت الحرية ـ وما زالت ـ جوهر الوجود العربي؛ فهي روح الأمة وجوهر سيادتها، ولا يجوز لأي قوة في العالم أن تتدخل في شؤون أقطارها، لأن حرية أي قطر عربي إنما هي حرية للأقطار كلها؛ وإذا بقيت منقوصة باحتلال أي جزء من أرضها فهي انتقاص من حرية الأمة وسيادتها...
ومن ثم فإن الصراع بين العرب والكيان الصهيوني صراع وجود وليس صراع حدود، وهو صراع من أجل الحرية والكرامة الإنسانية.. وأي ثقافة وطنية لا تستجيب لهذا الشرط إنما هي ثقافة مشوهة ومنحرفة وفاسدة... وعلى كل عربي مسؤولاً أم مواطناً أن يعمل لتطبيق إرادة الحرية وبناء الدولة القومية ذات البعد الثقافي والجماهيري، دون أن يستكين لحالة التشويه والتضليل، والتردد والاضطراب، أو حالة الجبن والخوف تحت ذرائع قوة الآخر الصهيوني وقدرتها على البطش والقتل الهمجي المدروس...
ونؤكد من جديد أن الثقافة الوطنية الحرة لا تكتمل بوجود أجزاء عربية محتلة؛ وهذا يعني أن التنشئة الوطنية تكون فاسدة إن تخلت عن مفهوم حرية الأمة بكاملها، ما يفرض على الحكومات الوطنية أن تستلهم في أدبياتها وثقافتها وحياتها كل معاني المروءة التي تتحرر من عوامل الخنوع والذل والاستسلام... وأي نظام تعليمي أو ثقافي أو سياسي غير مؤسس على محاربة الظلم والقهر والفساد والتخلف والفقر والجهل والاحتلال إنما هو نظام ضالٌّ مضلل؛ فاسد مفسد...
وفي ضوء ذلك ندرك أهمية ما جاء في دستور حزب البعث العربي الاشتراكي حين رسم الخطوط الأصيلة لنهضة الأمة في صميم حيازتها للقدرة على تحقيق وحدتها، وإدراك حريتها بكل أطيافها... من التحرر الاجتماعي إلى تحرر الأرض المرهونة بفعل القوى الاستعمارية الاستيطانية الصهيونية والإمبريالية.
وإذا كانت الأمة قد ابتليت بعدد من الهزائم التي نخرت عظام أبناء الأمة ولاسيما عظام النظام العربي الرسمي فإن ذلك لم يحرف حركة البعث ومثقفيها عن ثوابتها الوطنية والقومية.. وقد ساندها في ذلك أشراف الأمة وأحرارها ما جعلها تصمد أمام تلك الهزائم والنكسات التي أصابتها على مدار ستين سنة من احتلال فلسطين عام (1948م). وبناء عليه نستوعب ما جرى في أقطار الوطن العربي إذ غدا بعضها أوعية من دون مضمون تحرري قومي، وإن كان هناك نزوع عربي متميز في عدد آخر. ولعل هذا كله يفرض على الجميع الحرص على نيل حرية الأمة ووحدتها والتصدي لكل أشكال العدوان الصهيوني ـ الإمبريالي الذي تتعرض له.. فمن حق هذه الأمة أن تعيش بكرامة، وان تملك حقها في بناء مستقبلها بكل حرية وفق ما هو كائن وليس وفق ما هو متخيل، وكذلك ليس وفق الرؤى المفروضة من قبل الأقوياء في عالم اليوم.