تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


الواقعية.. كما يرسمها قلم (جورج إليوت)!

كتب
الخميس 30-7-2009م
لميس علي

يبدأ العصر الفيكتوري من عام 1838م، ممتداً إلى مطلع القرن العشرين، الفترة التي اعتلت فيها الملكة فيكتوريا عرش انكلترا وببدايته ستبدأ ملامح أدب جديد بالتشكل وسِم فيما بعد بالأدب الفيكتوري،

من أهم محطاته ثلاث علامات فارقة في تاريخ الأدب الإنكليزي، أولاها: قامة عملاقة كما قامة تشارلز ديكنز ورائعته (قصة مدينتين)، تميّز فيتزجيرالد بل وتحصيله الشهرة لمجرد ترجمته لرباعيات الخيام، وأخيراً بروز الأخوات برونتي برواياتهن (مرتفعات وذرينغ، جين آيير)..‏

وطبيعي أن تتواجد على الساحة الأدبية في ذات الوقت، أقلام أخرى لها تميزها وخصوصيتها جورج إليوت روائية انكليزية عايشت تلك الفترة، ولفتت انتباه أسماء كبيرة إلى نتاجها الأدبي، إذ امتدح ديكنز روايتها (مشاهد من حياة كهنوتية).. وأعجب النقاد برواية (آدم بيد) وشاطرتهم الملكة فيكتوريا هذا الإعجاب.‏

ولدت جورج إليوت، واسمها الحقيقي ميري آن إيفنس، عام 1819م في مقاطعة (وورك شير)، وتوفيت عام 1880م، عرفت بطفولة شديدة الحساسية والانطوائية، أرسلت خلالها إلى مدرسة داخلية، وعندما بلغت سن الثالثة عشرة انتقلت إلى مدرسة الأنسة فرانكلين، هناك أصبحت أفضل عازفة بيانو وتعلمت الفرنسية واتسعت اطلاعاتها.‏

يقول هنري جيمس عنها (لقد وصلت عندها درجة القبح إلى حد عظيم، لكن في هذا القبح الشديد تسكن روح متوقدة تخلب الألباب، وخلال بضع دقائق فقط تسحرك، تسرق عقلك، وهكذا ينتهي بك الأمر إلى أن تقع صريعاً في غرامها) هذه الدقة والمهارة في امتهان الأدب لدى إليوت، التي تسلب الألباب على رأي جيمس، تأتي نتيجة طبيعة لروائية تؤمن بأن الأديب - الروائي ما هو إلا إنسان أخلاقي بالضرورة وبالدرجة الأولى، ولهذا فهي تربط قيمة الأدب بمقدار ما يحقق من فضائل تعليمية أخلاقية، فتنتقد كل تزييف للحياة الحقيقية، ويمكن أن نقول الحياة الواقعية لأن إليوت من أكثر الروائيين الانكليز واقعية، لكنها لا تستخدم هذه الكلمة، هي تفضل مفردة (الحقيقة)، برأيها الحقيقة تشمل الواقعيات والمثاليات معاً، هي مفهوم أعم وأشمل.‏

وكأنما تتخذ إليوت من أسلوبها الوصفي أداة من أدوات تحقيق شرط الواقعية ذاك، في روايتها (طاحونة على نهر الفلوس) تركّب مشاهدها بتقنيات وصفية عالية الفنية.‏

المدهش أن الوصف لديها يأتي بأكثر من منحى وبأكثر من طريقة، كأن تصف مشاهد الطبيعة فيتسرب إحساس وكما لو أنها ترسم لوحة طبيعية، إنما بقلمها المتحول ريشة بين يديها، تقول واصفة المنطقة المحيطة بالطاحونة (إنه سهل فسيح حيث يسارع نهر الفلوس العريض خطاه نحو البحر عبر ضفتيه الخضراوين، وتندفع أمواج البحر الهائجة لتعانقه بود.. وعلى مد النظر امتدت مروج خصبة فلحت بعناية فبانت الأرض غامقة اللون.. وتبعثرت الأشجار على طول الطرقات).‏

أيضاً في هذه الرواية تصف شخصياتها من الداخل، وتصف علاقاتها مع بعضها، كما علاقة توم بشقيقته ماغي، بطلي الرواية، عبر قصتهما تروي إليوت ذكريات الطفولة، آلامها وأفراحها.. (كان توم وماغي لا يزالان مثل حيوانين يافعين، وهكذا تصرفت ماغي بحرية وهي تفرك خديها بخدي توم، وتقّبل أذنيه بشكل عشوائي، ثم تبتعد عن وجهه وتعاود البكاء، كذلك تأثر الغلام بعاطفة ماغي الجياشة، وتصرف بشكل يناقض قراره وتصميمه على عقابها)..‏

واقعية إليوت تظهر عبر الرواية بتقصي تفاصيل ودقائق علائق اجتماعية سادت في ذاك الزمان، صلات عائلة توم وماغي توليفر مع أسرة الخالات (جين غليك، سوزان دين، صوفي بوليت) ما ردود أفعالهم؟ وكيف تصرفوا لدى حدوث الأزمة المالية لعائلة توليفر، وما انعكاساتها على الطفلين، ثم بعد حين ارتكاب ماغي لفعل مشين بمقاييس ذاك المجتمع، بوقوعها أسيرة حب (ستيفن) حبيب ابنة خالتها لوسي، وهنا تحديداً تكشف الكاتبة بكل مباشرة صفات المجتمع الفيكتوري مستخدمة عبارات مثل (ذكورية ذاك المجتمع، العقلية الذكورية).‏

يمكن ملاحظة ذلك من خلال هذه الواقعية وما تخفي خلفها من نبرة أخلاقية وعظية، أنها اعتمدت أسلوباً سردياً مبسطاً، لكن شخصية الروائية لا تلبث أن تظهر بين حين وآخر، لاسيما عندما تطرح قضية أو مشكلة، فكرة ما وتقوم بمناقشتها، تخط الخلاصة التي تصل إليها بمفردها، تلقيها بين يدي الملتقي.. تخاطب القارئ.. مراراً وتكراراً،. تأكيداً على أنه غايتها الأولى والأخيرة.‏

الكتاب: طاحونة على نهر الفلوس. الكاتبة: جورج إليوت. ترجمة: دعد السليمان. - طبعة أولى 2009م.‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية