ومنذ أن تحولت الكتابة عن مكافحة الفساد «دون الفاسدين طبعاً» موضة وصرعة دارجة، حيث يحتار ذلك الكاتب مثلاً عن ماذا يكتب؟ فيجهز قلمه وحاسوبه وصفحته البيضاء ليكتب عن «ثقافة الفساد» التي استشرت في مجتمعنا ومؤسساتنا، صحيح أنها جملة مثيرة صحفياً «ثقافة الفساد» ولكنها غير صحيحة من حيث البناء اللغوي، فالثقافة لا يمكن أن تلتقي مع الفساد، فالفساد يلتقي مع الإجرام، يلتقي مع كل الخروقات التي تحدث على القوانين وعلى نظافة الحياة نفسها، ويبقى كل فساد هو فعل مشين ضد كل ما هو ثقافي. ومن هنا تأتي جملة «ثقافة الفساد» لتكرس غلطاً لغوياً يحمل في طيّاته خطاً أخلاقياً وثقافياً.
ويمكن مثلاً أن يستبدل الكتاب جملة «ثقافة الفساد» بجملة «الفاسد وفساده» أو الفاسد وتخريب الثقافة الاجتماعية مثلاً، لأن استخدام عبارة «ثقافة الفساد» تشبه من حيث البناء عبارة «مجرم مثقف» أو «مجرم أخلاقي» أو إجرام أخلاقي!
ترى هل نحن بحاجة للتذكير أيضاً بأن الثقافة تبني الفكر البشري، تعلّم الناس، تطور الآليات، تعمق الأخلاق وتربطها ربطاً عضوياً بالسياسة، هكذا يجب أن نناقش عندما نذكر كلمة ثقافة.
ضمن ذات السياق هناك من يستخدم جملاً ثقافية محددة، مثل الروائيين الشباب، أو الأدب النسائي، أو الشعر النسائي، وهنا نحن أيضاً نرقص مع اللغة، مثل من يرقص غربي أمام راقصة شرقية، فالرواية رواية والروائي روائي سواء كان كهلاً أم شاباً من حيث العمر، وإلا لصار لتصنيف العمر نفسه دلالة ومعنى فيصير مثلاً أو يصح أن نقول أدباء في عمر الأربعين أو نساء كاتبات في عمر الخمسين وهكذا،
ولا نقول كلامنا هذا من فراغ فقد تعودت الصحافة الثقافية على إطلاق عبارة «روائيون شباب» مع أنهم صاروا أجداداً بالمعنى العمري، ومنهن من صارت جدة أكثر من مرة، ومع ذلك يأتي من يقول لها أو له، روائي شاب، بينما يكون ذاك الروائي يستمع لأغنية «عيّرتني بالشيب وهو وقار».
ومن مقالب اللغة والحياة الثقافية أن تتورط مثلاً وتذهب لمتابعة أمسية شعرية في مركز ثقافي ما، وتبدأ الأمسية فتتعرف على شعر يحتاج إلى ترجمة إلى اللغة العربية، كما يحتاج قائله إلى شرطة فكرية لتعاقبه على تجرئه على عالم الشعر والكتابة نفسها.. وتقرأ عناوين كبرى في الصحافة ومحتويات ضحلة، وجملاً متتابعة دون فواصل أو حتى دون رسن معنوي يجمعها.
محللون «سياسيون» ونقاد دراميون، على الفضائيات استمرقوا لعبة الظهور الفضائي وامتلأت جيوبهم بأموال المكافآت، ويتحدثون بلغة باتت أكثر من ممجوجة، ولايعرفون ما يجري على الأرض، حتى أنهم لا يعرفون ما يحدث في بيوتهم نفسها، ونحن الذين نتورط برؤيتهم ضمن ساعات الإنارة بعد تأبيد جداول التقنين الكهربائي، نندم على ضياع وقتنا، ولو كان الأمر بيدنا لسحبناهم من قمصانهم الغالية الثمن من قلب الشاشة نحو الأرض ولقناهم درساً في الواقعية النقدية وفي المصداقية.
وأسوأ ما تسمعه في حياتنا: لا تدقق، طنّش، مين عم يقرأ؟ ومين عم يسمع؟ وشو الفائدة من كل هل حكي!!
وطبعاً هذا الكلام له معناه ودلالته ولكن من واجبنا هنا كصحافة ثقافية أن نميز بين اللغة وبين الرقص عليها.
وحتى لا نبقى في باب الجدّ والنكد، نذكر حادثة وقعت لبرناردشو: حيث زاره أحد أغنياء لندن، ولما دخل عليه وجده يتحدث إلى نفسه فسأله: مالي أراك تتحدث لنفسك؟ فضحك «شو» وقال: عادة ألفتها منذ الصغر، وهي أن أتحدث إلى أشخاص أذكياء.
وعطفاً واستفادة من برناردشو إحدى مصائبنا الثقافية أن أولئك المتذاكين يعتقدون أنهم أذكياء.
دام عليكم عقلكم.
M3alouche@hotmail.com