|
في الإيقاع القيد ثقافة بقصدية، بحيث يصل إلى الأذن ذلك الإيقاع الذي يوصل بتتالي حركاته وسكناته، وفق نظام في الترتيب والمسافات المعتمدة، يوصل للأذن إيقاعات ظاهرة، محسوسة، ويمكن قياسها، والتأكد من سلامة بنيانها الوزني، وما عدا ذلك ليس إيقاعاً، بل هو شيء قد يكون شبيها بالإيقاع، أو يتشبه به، أو قد يأخذ بعض خصائصه وصفاته، ولا يدخل في قوانينه، وضوابطه لأن أبرز صورة لسماع الإيقاع وتمييزه حدوثه ولا يغير من هذه الحقيقة القول الشائع، سابقاً ولا حقاً، وهو أن (الإيقاع) أعم من (الوزن) وهذا صحيح، غير أن أعميته تجيء من مد معناه على مساحات أشمل، يمكن أن يطلق عليها من باب التشابه، أو المجاز، ولذا فقد جعلوه يشمل الإيقاعات المتعددة: إيقاع الحياة، إيقاع اللون، إيقاع الفصول الخ... ولكنه لا يلغي إيقاع الشعر الصادر عن ترتيبة الوزن، في منظومة شبكة من القيود المحيطة بنا، قيود الحياة والموت، العادات والتقاليد، الأنظمة والقوانين، المنظومات الفكرية الإنسانية الراقية، ويمكن أن نعدد الكثير من القيود وعلى الرغم من إحساسنا بما في القيد من أسار وتضييق، فنحن أبناء هذه الأطر المقيدة، وذلك هو، بالنسبة لنا، فيما يبدو، أحد مظاهر ترتيب كمالاتنا الوجودية، وما نراه من تفتحات جمالية في هذا الكون المحيط هو ابن قيوده، كل في مداره، إذن يمكن إن الإبداعات الجميلة ممكنة، وقائمة ماثلة، رغم شبكة القيود، وفيها من الكمالات ما يدهش البصر والبصيرة معا، وهذا القول ليس دعوة غير مباشرة لتقليد أعمى للإبداعات الماثلة في الطبيعة حولنا، مع العلم أننا أبناؤها، وهي بمثابة الرحم الأول بما تمثله من رمزية، وبما نحمله لها من حنين، بل هي دعوة لملاحظة تلك القيود، وإدراك أن جميع مانراه حولنا من إبداعات في الكون هو ابن قيوده الخاصة، وهذا الكلام ايضاً ليس دعوة لتأييد إيقاعية ما، أو قيد ما، بل هو لفت انتباه إلى تلك العلاقة القائمة بين القيد والإبداع، أو إمكانية الإبداع، مع إدراكنا أننا لا نملك تلك القدرة التي أشاعت كل ذلك البهاء والجمال والتنسيق في الطبيعة، بيد أن الموهوبين، الذين أهلوا أنفسهم، يملكون قدراتهم التي يختزنونها، الإيقاع قيد؟ نعم، وأنا هنا أكرر مرة أخرى أنني أعني (الإيقاع) الذي ذكرته آنفاً، ولكن ثمة سؤال آخر: هل هو قيد (على) الإبداع أم قيد (فيه)؟ هل هو قيد على الشعر أم قيد فيه؟ أسأل هذا السؤال بعد أن بينا أن عالمنا هذا محكوم بالقيدية، أنا أرى، ككثيرين سبقوني أن الإيقاع في الشعر قيد (فيه) وليس قيداً (عليه)، لأنه حين يكون (عليه) فإنه يختصر إمكانياته، ويضيق عليه، ويأسره، وحين يكون (فيه) فإنه يساهم في إظهار بهائه، ويمنح مسارب إضافية جمالية لتجليات لونياته، وظهور معانيه، وإيماءاته، ومراميه، وحمولاته، على وقع نقلات راقصة، تعطيك في انتقالاتها، رنين تلك الخطوات، حاملة أصوات أجراسها، بما فيها من توقيع إيقاعات، غير أن السؤال السابق، يستدعي سؤالاً آخر: هل المشكلة في الإيقاع كإيقاع أم في الشاعر؟ وهل الجميع سواء في ذلك؟ في إجابة أولية يتبادر إلى الذهن أن الموهوبين من الشعراء العرب، قديماً وحديثاً, لم يقف قيد الإيقاع حائلاً بينهم وبين إبداعات رائعة عرفناها لدى العديد ممن لا خلاف على إبداعاتهم الأدبية، وهذا يوحي، مبدئياً، أن العلة في الشاعر حين ينوء بذلك القيد، ولا شك أن هذا السبب كان وراء معظم تلك التشنجات، والتنظيرات التي ملأت تلك الصفحات التي نعرفها، وهذا الكلام لا ينفي الإبداعات الرائعة التي كتبت في النثر، أو في قصيدة النثر، وليس الجميع سواء في ذلك. لعله من المفيد هنا الإشارة إلى أن الإيقاع الشعري الذي هو قيد عند هذا، وأفق مفتوح لذلك، هذا الإيقاع ليس له قيمة في إيقاعيته المجردة، بل قيمته في تشكيلته البنائية، اللغوية، الفنية، المعنوية، فإذا تحقق ذلك كان مجلى لقيمة نفسية، جمالية، تعبيرية، فهو في حالة من تبادل الأخذ والعطاء الإرسال والتلقي، أن يكون مانحاً وممنوحاً في آن. خارج هذا الأفق، قد يكون من المطلوب، ومما يزيد المسألة جلاء أن نقف عند معنى واحد، فنقدم له صياغة غير إيقاعية وأخرى إيقاعية، ونقارن بينهما، 1- السروة آهة خضراء. تلك صياغة (نثرية) من حيث الإيقاع، شعرية من حيث الصياغة، الصيغة الثانية: 2- حفلت بأفق بهائها الآلاء والسرو فيها آهة خضراء في المعنى الأول ثمة سروة تمتد كما (الآه)، وبحكم العلاقات القائمة تصبح الآهة خضراء، كما تصبح السروة آهة، هذا التشكيل، في المعنى والصورة يحمل الدهشة، والجمال، والابتكار، وهو كلام لاإيقاعية فيه. في المعنى الثاني ظلت العلاقات التي ذكرناها قائمة، وأضيفت إلى تلوينات أخرى امتدت في لوحة البيت الشعري، فثمة (الأفق) مفردة ودلالة، وثمة (البهاء) وثمة (الآلاء)، وثمة (فيها) وليس (منها)، وكلها تحمل رحابة الامتداد، وما يتسع للنمو، ويناسبه، يضاف إلى ذلك أجراس الإيقاع المتولدة من إيقاع متفاعلن، إيقاع الكامل، الذي يحمل انسيابية تشبه انسيابية الآلاء، والأفق، وامتداد خضرة الآهة، أو السروة الخضراء، قد يأتي من يقدم قراءة أخرى في هذا المثال، وتعدد القراءات دليل غنى لا فقر، شريطة أن يكون قراءة قائمة على الإنصاف، لا ينطلق من أرضية الرفض أو الدفاع الأعمى، لأننا آنذاك نكون بين يدي أدلجة ما، صغناها، أو حملناها، أو حملنا إياها آخرون، وصارت هي التي تتحكم بنا بدلاًمن اعتبارها دليلاً في الاتجاه، ليس إلا.. al-naem@gawab.com
|