ويتم النقاش في المواعيد المقترحة لسحب القوات الأميركية وجدولة هذا الانسحاب, وكأن واشنطن -لا التمرد العراقي أو العملية السياسية العراقية- هي صاحبة القرار الوحيد في الموضوع, علما أنه يعود إلى العراقيين اتخاذ قرار في شأن سرعة وفعالية تدريب قواتهم التي ستتسلم عبء حفظ الأمن في البلاد. لذلك, فإن غالبية السجال الأميركي تدور في فراغ, من دون الأخذ في الاعتبار مسار الأحداث السياسية وتدريب القوات العراقية, والحسابات السياسية في طهران ودمشق التي يمكن أن تكون حاسمة في هذا الشأن.
وعندما يتم تشريح وتحليل السجال الجاري خلف أبواب واشنطن تظهر نتيجة مهمة تتلخص بوجود هامش واسع من الإجماع بين إدارة الرئيس بوش وغالبية أعضاء الحزبين الديمقراطي والجمهوري في الكونغرس.
الإجماع يقر بأنه تم إهدار الكثير من الوقت والمال على الاحتلال وإعادة الإعمار, ولكن ما زال على الولايات المتحدة والقوى المتحالفة معها أن تدرب وتجهز القوات المحلية التي ستسمح للسلطة المنتخبة بإدارة العراق بفعالية, وعدل. الإجماع يكره فكرة أميركا التي توضب متاعها وتهرب, ولكنه يتفهم رفض الرأي العام الأميركي للاستمرار في تقديم ضحايا في العراق من دون تصور حقيقي للنهاية. الإجماع يرغب في نتيجة جيدة في العراق, ومن دون أي إيحاء بهزيمة أميركا, مع الإصرار على تحديد موعد قريب يتوقف فيه سقوط الخسائر الأميركية في العراق وتتوقف دعوة قوى الاحتياط والحرس الوطني للخدمة في العراق. ويعتقد الإجماع أن سحب بعض القوات قريبا هو فكرة جيدة جدا. يبدو رائعا إعادة لواء أو لواءين (ما بين 50000-70000 جندي) إلى الولايات المتحدة بمناسبة عيد الميلاد, بعد مساهمتهم في توفير الأمن للانتخابات البرلمانية العراقية يوم الخميس المقبل.
الإجماع يرى أنه من الخطأ تشجيع الاستقلال الكردي, لأن من شأنه تعقيد الأمور بالنسبة لتركيا, وهي حليف مهم للولايات المتحدة في حلف شمالي الأطلسي (ناتو) كما أن للولايات المتحدة مصلحة في إقامة علاقات اقتصادية قوية مع كل العراق في المستقبل.
دينامية السياسة الحزبية في واشنطن لا تتيح تتبع أفق الإجماع. ولكن ما يساعد على فهم الإطار الحقيقي لهذا الإجماع هو تتبع مواقف القطبين اللذين بقيا خارجه: الصقر الجمهوري السيناتور جون ماكين, وعضو الكونغرس الديمقراطي جون مورثا.
ماكين, المستعد لإرسال مزيد من القوات إلى العراق للقتال حتى النهاية يعارض, مبدئيا, تورط أي أميركي, مدني أو عسكري, في ممارسة, أو القبول بممارسة, التعذيب. وسبق ان , انتقد ماكين محطات من أداء بوش, أما مورثا الديمقراطي, فيرغب في سحب القوات الأميركية من العراق في غضون ستة أشهر. واستقطبت دعوته تأييدا قويا, من ضمنه تأييد زعيمة الأقلية نانسي بيلوسي ومستشار الأمن القومي الأسبق زبغنيو بريجنسكي. كما أن غالبية أعضاء الحزب الديمقراطي, وجزءا متناميا من ممثليه, بدأوا يتحلقون حول مورثا, ويتم رصد تحركهم من قبل ما تبقى من حلفاء للولايات المتحدة في العراق. باختصار, الإجماع الحالي غير مستقر. هناك استعداد, أو قبول, بالتحرك نحو خيار مورثا من قبل بعض الجمهوريين وغالبية الديمقراطيين نظرا للاعتقاد السائد بأن الرأي العام الأميركي سئم هذه الحرب وهو على استعداد للانقضاض على نظرية الحفاظ على المسار حتى تتمكن السلطة العراقية المنتخبة من تحقيق النجاح.
واللافت أن السيناتور هيلاري كلينتون ما زالت ضمن الإجماع على الموقف في العراق, الذي يتوقع أن يصمد. فهي تتذكر جيدا ما أصاب الحزب الديمقراطي إثر معارضته للحرب في فيتنام, عندما اتهم بمعاداة المؤسسة العسكرية وعدم الاهتمام بالأمن القومي, وهي الصورة التي لم يستطع الديمقراطيون التحرر منها حتى الآن.