في حين أنَّ «صاموئيل بيكيت» يدعونا لأن نبحث عنه, وهذا ما تريد قوله المسرحية. فكثير من الكتابات تقرأ العرض المسرحي باعتباره تسلية ذهنية, في حين أنَّه محاولة لقهر قيم البشاعة والخوف والجمود العقلي. وهي قراءةٌ إمَّا دفاعٌ أو هجومٌ شخصي على العرض, بعيداً عن استعمال أي من أدوات النقد العلمي. هناك نقاد ولكنَّك تراهم حتى في التنظير لا يخترقون العرض, بل يفعلون كمن يغسل التفاحة ليأكلها ثمَّ لا يلبث يرميها في سلة الوسخ, على الناقد أن لاينتظر مجيء «غودو» وإلاَّ ماتَ أولاده من الجوع, وماتَ شعبه من العبودية, واندثر الجمال من على وجه الأرض. وكما ذكرنا من قبل على الناقد أن يبحث عن غودو, ومن هنا تبدأ الدراما, يبدأ الصراع. غودو مطلوبٌ الآن, مثلما مطلوبٌ من ماكبث وزوجته أن يعيدا الروح لمليكهم الذي جاء ليكرِّم ماكبث فكافأه بأن قتله, فالندم وتعذيب الضمير الذي لحق بماكبث وزوجته لايعيد إليهما البراءة, أو يكفي لتبرئتهما من فعل قتل الملك, وكذلك الانتظار. فالمسرح هو أهم(فعل) تغييري, وأهم فعل شمولي, يبحثُ ويغوص في البحث عن الثابت الذي يعيق المتحرِّك, حتى يدينه ويجرِّمه كي لايمحق روحنا. لكنَّنا لاننفي بل نسلِّم أنَّ عندنا نقد مسرحي, ونقاد مسرحيون, لكنَّه النقد الذي يقوم على التفسير والوصف – تفسير العرض بعد وصفه, فيختلط الوصف بالتفسير, ويصير النقد محاكمة شخصية, أو في أحسن الأحوال قد نقرأ نقداً فيه توضيح – قراءة مثقَّف لعرض مسرحي, فيُسقط عليه وعيه ليوضِّح لنا كيف وماذا وجدَ في العرض؛ فتجيء كتابته كمن يقرأ العرض على أنَّه نصٌّ أدبي, فيهتم بالجوانب الصوتية والقواعدية بصفته لغةً وليس (عرضاً) مع شيء من الرصد والتحليل للعلاقات المتشابكة.
ولو رجعنا إلى المسرح اليوناني وكذا الشكسبيري وهذا بقصد التعلُّم والاستفادة, لرأينا كيف يفرجينا هذا المسرح تسلُّط(الفرد) وتسلبطه على الحياة, فالخير لاينتصر, وإن انتصر فيحتاج إلى وقت وضحايا, لذا يركب الفردُ الشرَّ, فالمطامع تتحقَّق على يديه وسريعاً, ولهذا كان المسرح مليئاً بالمفاجآت: جرائم, انتقامات, خيانات, مؤامرات, قتل- لكن هناك فرْقٌ في القتل؛ فميديا قَتلت وعطيل قَتل- لكنَّ عطيل لما قتل فمن أجل ذاته, فيما ميديا قتلت لتقهر غرور وصلف وعنجهية وطمع جاسون. ثمَّة وحش قابعٍ نائمٍ في ذات الفرد, لكنَّه يحتاج إلى من يوقظه, هذه ذهبت عن بال الناقد الذي عليه أن يفتش عن (المحرِّض) الذي سيكون مختلفاً في حال «كليتمنسترا» التي عندما قتلت فلأنَّها كانت تنتقم لابنتها, وكذلك «إلكترا» فهي قتلت انتقاماً لمقتل أبيها. أمَّا «أغامنون» فإنَّه عندما قتلَ/ذبحَ «أفجينيا» فإنَّه ليقدِّم ضحية /قرباناً. والمسرح هنا في مثل هذه التراجيديات على اختلاف المحرِّض والدافع إنَّما يقوم بتوظيف الحقيقة باعتبارها قوَّة تأسيس تاريخي للحرية الإنسانية, فالفن المسرحي لا يبشِّر ولا يدعو إلى العدم؛ إنه وجود, ولو كان مكتوباً- أي هو من حوار, من حدثٍ لساني, لأنَّه مغامرة ميلاد وليس مغامرة موت وقتل, ذلك ليقدِّم لنا العون على الحياة, بل لأنَّه- المسرح يؤسِّس الوجود بوصفه حضوراً؛ فعلا (الآن وهنا), وهو فن يفكِّر حين ننسى أن نفكر, بل ويذكِّرنا ما نسينا أن نفكِّر به. فنحن لسنا وجوداً للموت, نحن فعلٌ, فكرٌ يتذكَّر- وجود. وبذا ماعاد الفن- والمسرح منه محاكاة للطبيعة أو الواقع, بل هو عمل إبداعي يتشكَّل من إرادة القوَّة عند الإنسان, هو الحياة- المكان, الوعي الذي يرى القوَّة (حقَّاً) يشكِّل ماهية الوجود.