هي الشام مدينتها العتيدة، هذه الوردة التي تربت على زند القمر، فحملت دمشق في عيونها جواز سفر ودخلت بها إلى أصقاع الأرض لتحيا معها توحداً فتبدأ مساكب الشوق والوجع.. آه من أنفاسك يا دمشق وهي تعانق هسيس أحرفها.. آه ياشام نسافر وتبقين في أنفاسنا مشغولة من خلايا دمنا..
تقول: الاسم الكامل والكمال لله وحده، اسمي الذي وجدته مسطراً في بطاقتي الشخصية.
غادة.. أحمد السمان، مكان الميلاد في دمشق عاصمة الأمويين كانت ولادتي الأولى وفي بيروت ولادتي الثانية والمؤهل جامعي مشاكسة فكرية تعشق الحرية..
العمل نحلة ملدوغة ولدت في دمشق وتلقت علومها في دمشق وتخرجت في جامعتها قسم اللغة الانكليزية حاملة الإجازة..
كانت طفولة غادة مؤلمة ففي عمر السنوات الخمس فقدت أمها التي كان لها الفضل في بذر روح التمرد لديها وإذكاء شمعة المحاكمة بذهنية متفردة للانعتاق من الفكر الجمعي.
كانت طفولة غادة أقرب إلى ضبط الذات منها إلى العبث الطفولي.
عاشت غادة تجربة زواج فاشلة انتهت بعودتها من بيروت إلى دمشق لتتابع دراستها الجامعية وتتخرج حاملة إجازة في اللغة الانكليزية، لم تنمُ هذه الياسمينة بصمت فقد وعت من استلاب حرية المرأة ووضعها الدنيوي في المجتمع الشرقي ما دفعها إلى وضع دستور خاص بحرية النساء دفعته إلى إحدى المجلات الدمشقية لنشره.. وفيه دعتهن إلى عدم استعذاب القيد وحثتهن على التزام الحرية المسؤولة التي تجعل منهن كائنات ذات مرتبة موازية للجهل. بعد وفاة والدها حكم عليها بالسجن ثلاثة أشهر غيابياً لمغادرتها دمشق دون إذن مسبق وهي من حملة الشهادات العالية في سورية فطردت من عملها وهذا ما ترك جرحاً بليغاً في قاعها لم تستطع أن تبرأ منه ومن حب دمشق. غادرت غادة إلى بيروت وعملت في الصحافة اللبنانية وانخرطت في واقع الحياة، فأشارت إلى أمراض المجتمع العربي فكتبت عن الفروقات الطبقية والتخلف والجهل وعدم تكافؤالفرص واللاعدالة الاجتماعية والطائفية وطالبت بجرأة بحق المرأة في جسدها كما الرجل متكئة على البعد الأخلاقي للمرأة الشرقية حيث تعودت تعطي ولا تجيد المطالبة بحقوقها..
تربت غادة على أكتاف نفسها فآلمها هذا المجتمع بزيفه وازدواجيته فامتلكت من الجرأة ما أهلها لدخول عتبة المسكوت عنه في الأدب النسائي إضافة إلى سلوكها الوجودي الذي مارست فيه حقها في الحرية والفوضى والاغتراب.
هناك صفة أساسية تميزت بها غادة وهي إرادة الرحيل نحو الضوء إذ إنها تكره العتمة والتخلف الذي ينخر في حياتنا كالسوس وترمي إلى إعادة صياغة دواخل الإنسان بمفاهيم جديدة تجتاح الحقيقة لتعريها فتظهر براقة في مجتمع يركن إلى حيطان مسدودة تشدها أقفال وأغلال تقول: «معاركي تنطلق من ثوابت نفسية لن يزعزعها شيء وهي إنني أنتمي إلى القبيلة وأنا جزء منها ولي الحق برفض بعض ممارساتها والشجار معها كما فعلت جداتي العربيات منذ عصور صدور الإسلام، أتعامل مع قبيلتي بحب ولكن بشجاعة.
فالحب عندي ليس مرادفاً للضعف بالضرورة، والحصاد المر ترافقه سنابل دفء القلب العربي ومباهج اكتشاف أصدقاء لحرفي لم أكن أعرفهم ولم يدر بخلدي أنهم سينحازون إلى بعض مواقفي اللامألوفة..
ثم إن المعارك تجددني وعلى ضوئها أعيد مراجعة أفكاري وصياغة ذاتي: ما جدوى الكتابة؟ كثيراً ما طرحت على نفسي هذا السؤال وقررت ألاجدوى، ولكن بالمقابل ما جدوى الصمت؟..
في مجموعتها القصصية الأولى عيناك قدري 1963 تجاوزت غادة الأطر المسموح بها لحرية المرأة العربية فكان بوحها يحمل التمرد على معطيات الواقع الإنساني للفرد ثم رفض المنطق الجنسي الذي يتعامل به المجتمع مع المرأة. تروي غادة في «عيناك قدري» حكاية (طلعت) خامس فتاة لوالديها التي تذمر الأب عند ولادتها، لأنه بحاجة إلى ولد ذكر يحمل اسمه ويرثه بعد موته وعند ولادتها أسماها طلعت..
وتحت هذه الحقيقة عملت على التمرد على أنوثتها وضعفها فأنهت تعليمها وعملت واستقلت اقتصادياً لتثبت انسانيتها مثلها مثل الرجل ضاربة عرض الحائط بكل النظريات والمفاهيم التي تحط من قدر المرأة ولا ترى فيها سوى الجسد.
في سؤال لغادة: هل تعتبر نفسها كاتبة إباحية؟ أجابت: نعم أنا إباحية أبيح لنفسي الحقوق الأدبية كلها الممنوحة للرجل وأؤمن بحق ليلى أن تغني جرح قلبها.. لست إباحية ولست رابعة العدوية أنا مواطنة متلبسة بالكتابة والصحو، بالصدق واحتقار الأقنعة،وتتساءل مستنكرة: لماذا لا نرى العهر السياسي ونركز على الشق النسائي للمأساة؟ ولماذا لا نرتجف غضباً لاستباحة جسد الأرض والتاريخ.. ونستعر هياجاً أمام أي تجاوز جنسي نسائي؟..
كل هذا يضعفنا أمام حقيقة يعرفها الجميع أن غادة تكره الأقنعة التي تغطي الوجوه في وضح النهار فالعيش بأقنعة سيصيب الإنسان مع الزمن بانفصام تقول: الزمن يبدل كل شيء وفي عالمنا العربي تبدلت أقنعة الازدواجية، فصارت تتنكر بالخرافي والمقدس ولكنها لاتزال تعاني من الدوران حول الجرح الأصلي هرباً من مواجهته.
تقول: «إن الزواج في بلادنا هو نوع من العهر الإنساني غالباً المزود بشاهدين ووثيقة رسمية ويتمتع بحماية المؤسسات المتعفنة القائمة لأنه بفساده وبتأطيره للإنسان وبالتالي قتله البطيء لإبداع الفرد وتوريثه يضمن بقاء هذه المؤسسات.
إن تحويل المرأة إلى سلعة تباع وتشترى باسم الزواج في بازار النخاسة هو نوع من البغاء المقنع بقناع الشرعية المزيفة التي تتناقض مع جوهر الشرف بمعناه السامي.
إذا كان تعريف المومس إنها المرأة التي تقبل العلاقة الجنسية بالرجل لأسباب محض تجارية- نفعية فلابد من أن يسري هذا التعريف على أي امرأة تقبل بالعلاقة الجنسية بالرجل للأسباب ذاتها مهما كانت الأطر التي تتم العلاقة داخلها وبهذا فالعلاقة الزوجية القائمة على هذه الأسس والغايات إنما هي في جوهرها دعارة...
وفي رأي غادة إن خضوع المرأة لرجل تكرهه ولا تربطها به أي رابطة روحية أو فكرية نزولاً عند الأهل هو عذاب مرير بالنسبة إليها وهو دعارة بالنسبة للإنسانية لأن المرأة في هذا الوضع تهب جسدها قسراً لمن لا تريده إلا حباً أو رغبة في العطاء..
إن المتابع لفكر غادة السمان لا يستطيع إلا أن يلحظ دورها الواعي في تكريس صورة المرأة الحرة المستقلة كموقف مضاد لظروف التخلف المعروفة، فهي تدرك أن تحرير المرأة جزء من التحرر العام ولكنها بالمقابل تعرف أن لا منجاة لنا مادام محكوماً على نصف مجتمعنا بالإقامة الجبرية في سجن المكرسات التي تحتاج معظمها إلى غربلة لإخراجه من خانة التراث إلى الأوهام وكم من الخطايا ارتكبت بحق المرأة تحت لافتة التراث، وروح التراث بريئة من تلك الهرطقات.. على هذا لا يمكن تحرير المرأة دون تحرير الرجل.
هذه هي غادة الإنسانة الكاتبة التي تحاول تحريك الراكد السائد لتدخل بنصها مناطق خضراء جديدة فيها من الجرأة وخرق التابويات ما يسمح لها بتأسيس جمهورية للحرية بامتياز فبرأيها إن تحرير الجسد هو جزء من تحرر الذات الغربية ككل وجزء من التحرر الفكري والسياسي والاقتصادي.
لقد تناولت غادة مأساة الإنسان في المجتمع الذكوري الذي يسعى لامتلاك المرأة فيحاول اضطهادها لأنه يخشى أنوثتها، فيلجأ إلى التعامل معها بازدواجية كما لو كانت ملكه وله الحق في التصرف بها كما يشاء وفي هذا حرمان لها من الإحساس بإنسانيتها..
وتنشأ هنا قضية عذرية المرأة التي عالجتها غادة بكثير من الرؤية التي تتعارض والفكر الشرقي، فعذرية المرأة تعتبر مقياساً للأخلاق في الشرق، أما الرجل فيرتكب كل الأخطاء وهي مباحة له.
ففي قصة «عذراء بيروت» تفقد الفتاتان عذريتهما ولكنهما تستطيعان اعادتهما بإجراء عملية جراحية فقط، والمسألة هنا مسألة قدرة على دفع التكاليف.
وهنا تحاول غادة التأكيد بقناعتها أن البكارة لم تعد مقياساً صالحاً للشرف في زمن التكنولوجيا وأن هناك قانوناً أخلاقياً مزدوجاً.
النقطة الأخرى وهي الحرمان والكبت الجنسي فترى غادة أن الكبت يعود إلى عوامل داخلية كمركب الأوديب وعوامل خارجية كالتحريمات الاجتماعية المحيطة بالجنس بحيث تحيطه هالة من التحريم المقدس والقمع الأخلاقي.
ففي رواية «بيروت 75» وعلى لسان البطلة ياسمينة تقول: «لقد ألفته هو، جسده، أدمنته، إني مريضة به، طيلة سبعة وعشرين عاماً وأنا ممنوعة من ممارسة تلك المتعة المذهلة وها أنا اليوم مريضة منحرفة وقد كرست نفسي للفراش وفي دمي شهوات النساء العربيات المسجونات على طول أكثر من ألف عام ولم يعد في وسعي أن أمارس الجنس كجزء من وجودي، لقد هزمت أمامه وصار هو وجودي كله وفي الليالي القليلة التي أقضيها في بيت أخي بعيدة عن جسده الأشقر ارتجف كمدمن محروم وأفقد كل قدرة على التعقل.
لقد نسوا حين حبسوني في قمقم التقاليد أنهم بذلك يجردونني من مقاومتي وها أنا أستسلم لنهر النار التي تحرقني وها أنا أخفيه بشهيتي إليه، فهو لم يفهم أني لست مومساً ولكن جوعي لجسده عمره أكثر من ألف عام.
أما مسألة الحب في أدب غادة فلها مكانة جد كبيرة فالحب محور الوجود، وكما قال إيريك فروم إن الحب طفل الحرية وفعل إيمان.. من هنا فإنها ترى أن الحب هو فعل الحرية وخلاص من الحرمان والكبت الاجتماعي وحاجة لتحقيق الذات لكلا الطرفين تقول: الحب مناخ نمو وازدهار للطرفين لا عملية قرصنة من جانب واحد، لإفقار روح الطرف الأول تدريجياً وعزله وجره إلى الجفاف، فالجانب الآخر هو روح أيضاً بالإضافة إلى أن له كياناً وتطلعات ويتجلى ذلك في قصتها: الحياة بدأت للتو التي تصف فيها مشروع زواج بدأ بالخطيئة بين موظفة ورئيس تحريرها في الجريدة فيحاول وضعها في إطار امرأة بلا جدوى فقط أعمال المنزل والطبخ كي تظل تابعة له.
على أن الشيء المميز الذي عنون منظومة غادة الفكرية هو إيمانها بالحب كقدرة عالية لحل كل المعضلات التي تواجه البشر رغم كل المحن التي قد يتعرض لها لأنها ترى أن الرجل إذا كان يبني الحضارة فإن المرأة هي التي تبني الرجل.
إن احتكاك غادة وحركية الحياة ورصد الواقع العربي وكأن الظلم والقهر هو قدرنا نحن العرب جعلها تعكس معاناتها في هزيمة حزيران 67.
ففي قصة الدانوب الرمادي من مجموعة رحيل المرافئ القديمة، كانت هزيمة حزيران 67 بمثابة صدمة كبيرة لغادة.. يومها كتبت مقالها الشهير: أحمل عاري إلى لندن.
وكانت من القلائل الذين حذروا من استخدام مصطلح النكسة وأثره التخديري على الشعب العربي. وقد عكست نصوص غادة العالم من وجهة أكثر مأساوية وحساسية وكانت رائدة حين تنبأت بالحرب الأهلية اللبنانية في رواية «بيروت 75» حين أوردت على لسان العرافة: أرى كثيراً من الدم.. أرى كثيراً من الدم..
وفي رواية «شقائق النعمان» تحدثت بإسهاب عن المستعمر الفرنسي الذي أوقع مليون شهيد جزائري وتناولت قيم المجتمع الغربي المادية القاسية التي لا تقاوم على أسس أخلاقية، فالمفارقة «يتظاهرون ضد إبادة الحمام في لندن وينهبون ثروات العالم الثالث».. أهذه هي الحضارة؟
كما كان للقضية الفلسطينية حصة كبيرة في نتاجها حيث تدور لغتها الجميلة في مدارات الجسد واللغة والهوية والوطن.
كما تطرقت غادة للصدمة الحضارية الغربية للشرقيين (cultureshock) بوعي عال, فالشرقي الذي يحتك بالمجتمع الغربي سيلمس البرودة العاطفية واللامبالاة الانسانية والتمييز العنصري وتفضيل الكلاب على الأطفال, إضافة إلى الأخطاء التي تمارس في الوطن من قمع سياسي وانتهاك لحقوق الانسان, حيث يهاجر المحطمون من الوطن فيصابون بخيبة أمل مزدوجة من المجتمع الغربي وحضارته ومن الشرقي وأخطائه وبالمحصلة يتغلب حب الوطن على كل أبطالها ليعودوا وقد رأوا أن عمليات الاستيراد الفكري والايديولوجي التي شهدناها على امتداد القرن العشرين كان لها الأثر الأكبر في تفريق العرب، حيث سار كل منهم في اتجاه عقائدي فعاشوا الاقتتال..
ولكن برحيلهم إلى الغرب كان الغرب يشدهم صوب دمشق فيصرخون: أعيدونا إلى دمشق.
وهذا ما أرادت غادة أن توصله من خلال النص «إن الآخر ليس بديلاً للوطن»، فنحن الشرقيين مازال لدينا الانسان.
عاشت غادة غربة حقيقية خارج الوطن، حيث صعقتها حقيقة الغربة اللاذعة وطعم الليل في مدن نائية وسنوات من التشرد بين قارات الصقيع والوحدة وهي تبحث عن يقين ويد كبيرة دافئة.
فالانتقال من جو دمشق المحكوم بالتقاليد إلى جو لندن وباريس انتقال مرهق.
غادة مازالت طفلة تكتب على زجاج المطارات اسم دمشق وتنتمي للصدق والحب والعدالة والحرية.. تسافر هرباً من غربة الوطن إلى الغربة الأقل إيلاماً ولا تجد دفأها إلا في حضن أبجديتها وروح العلاقات الإنسانية.. أحياناً تبتعد عن الآخرين لتخفي دمعة الخيبة بهم. فالألم كم أتحسسه هو وليد الاحتكاك بين صدقها وبشاعة الأشياء من حولها. ولعل وجود الجنس في أدب غادة يشهد له أنه دوماً في خدمة السياق الروائي والبعد الدرامي للشخصيات، وبهذا فهي لم تنزلق لتقديم أدب إباحي، ففي رواية ليلة المليار هناك عجز جنسي يصيب البطل وهذا ما أسقطته على الواقع المنهزم للمثقفين العرب في مواجهة أزمات الأنظمة وانهيار الحلم العربي الجميل، عانت غادة بعد فقد زوجها الدكتور بشير الداعوق الكثير فعند زواجهما قيل إنه زواج غريب إذ كيف يجتمع الثلج والنار؟
ولكن غادة أثبتت أن المرأة الأديبة قادرة على أن تكون زوجة وفية وحبيبة وأماً أعطت للأمومة أجمل حقوقها..
أضافت غادة الكثير إلى الرواية السورية العربية من التقنيات كتقنية تيار الوعي والحوار الداخلي وتعدد زوايا السرد، وإلغاء الحدود التي تفصل الواقعي عن الخيالي في القص. تأثرت غادة بالثقافات الأوروبية والغربية نتيجة دراستها للآداب الانكليزية ثم إقامتها في لندن وباريس وسويسرا.. ولكنها أيضاً أثرت عن طريق ترجمة معظم رواياتها إلى اللغات الأجنبية وتأليف كتب نقدية عن أدبها.
تقول غادة: مرفئي الأخير دمشق.. أنا مازلت الطفلة الشامية القديمة أنتمي لأقوام تقدم طعامها وقلبها على يدها وأهلاً بمن يعرف كيف يهنأ بهما والويل لمن يستخف بخير القلب.
غادة السمان أكبر من أن يحاط بأدبها في هذه العجالة أنحني أمامك كاللبلاب وأقفل كلماتي بمحبة واحترام, وكلنا أمل في أن تعود الياسمينة المهاجرة إلى جذورها لتكشط غبار الغربة اللاذعة عن سنوات عمرها وهي العاشقة المزمنة لدمشق.
hunada@housri.com