تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


ومات في قمة الجبل

ملحق الثقافي
28/3/2006
باســــــم عبــــــدو

تفرش أغصانها كدالية عتيقة. تحرس النجمة غيمة أرملة، كانت الزوجة الثالثة لقمر عقيم، لجأ يوماً الى فضاء منسي، واغتصب مساحة مروية من قلب فراشة تتقافز بين الزهور. وعندما أعتم النهار،

والشمس حارقة في سطوعها، كانت أعناق الفلاحين تلتوي، وتنحني ظهورهم، ينتظرون قدوم الغيوم والنوارس، يشدون أحزمة الفقر على صدورهم، يجلسون نصف اليوم على مصاطب البيوت والدكاكين، ربما ينقذهم رعدٌ قادم، فيخلدون للراحة.. يمدون أبصارهم الى البعيد البعيد، يفسرون ويشرحون كعالم الأنواء! يفرُّ القمر الذي يعرفونه جيداً، في زاوية من فضاء القرية. بدؤوا يقصون الحكايات مع الأرض والمطر والمواسم والأعراس، يحكون قصص العوانس والأرامل وغياب الرجال عن بيوتهم، وعن العمال الذين يفرشون قمصانهم على أرصفة المدن، وفوق رمال الشواطىء.. يحكون للقمر عن الرعاة والأغنام، عن جهلهم بما يدور حولهم، وعن فرحهم وحزنهم، وكل الأشياء الملونة والمحيرة، عن فساتين بنات المدينة، وواجهات البيوت الزجاجية، وعن العطور والأسواق المسقوفة والحمامات، يحفرون جلودهم وبشراتهم السمراء بأظافرهم. وحينما يسألهم القمر الجميل المدور عن عطور نسائهم، يتضاحكون ويهمسون بخجل.. يقولون: من رائحة البيوت والأرض اما النساء فهن كالسواقي الجافة. تيبست شفاههن وأثداؤهن.. اعترفوا بأنهم منذ سنة لم تشم أجسادهم رائحة الماء. وبقيت غرف النوم الطينية، تتكحل بالأحلام، والأسرة الإسفنجية من شتاء العام الفائت تحتفظ برطوبتها، باردة، خاوية من رائحة النساء. اليباس في كفةٍ لحلم مقطوع الرأس، والأمل المغشوش في الكفة الثانية. ومازالوا يحتفظون برسائل الامواج القادمة من جزر النار في اعماق المحيط. يتلهفون لسماع أصوات ارتطامها بالصخور في سكون مخيف، وحقد دفين، يتكىء على جدار من رملٍ وريح. صباحاً وردياً يا أبا سعدو..! مد يده. كانت كفه الخشنة تجرش كفي وتطحنها. ربط طرفي الكوفية بعقاله مارداً صلباً، علمته السنون أن الحياة لها طقوسها، فإذا غضبت تميل عليك، وتضغط بقوة، تكاد تعصرك، أو تميل أنت عليها وتكبر بها، فتجلس إعوجاجك، وأن لغة الحوار بين الماء واليابسة قديمة، والجديد هو انقسام العالم الى شمال وجنوب. أصبح أبو سعدو الذي يتابع الزلازل والانهيارات والفيضانات والاخبار والقمم والمنتجعات، وكان أول فلاح في القرية يحصل على الشهادة الاعدادية، غير قادر على استيعاب مايجري. تساءل مراراً: كيف تُصاب القارات بالانزياح،وتتحول الى قرية صغيرة بهذه السرعة؟ وتساءل أيضاً: من جاء بهذه التسميات، ومن سمح لبلاد «سام» أن تنصب نفسها مختاراً على هذه القرية، وأن تقسمها الى نصفين، بجدار من الراجمات والصواريخ؟ ابتسم أبو سعدو بعد صمت مشوب بالحزن.. نفرت من وجهه أسئلة جديدة، ظلت تتنقل بين بؤبؤين ودمعتين، وكأنَّ بئراً ملأى بالخوف والأمل المجفف على أطباق القش، تفيض دفعة واحدة! هزَّ رأسه. فتح علبة التبغ« الحموي» لف سيجارة ثخينة.. تنفس بألم. فتل شاربيه بأطراف أصابعه الغليظة، فاشرأبا ونهضا كجناحي نسرٍ يحب الحياة، ويهلل بفرح للموت على قمم الجبال. وبينما كان الفلاحون ينفضون سراويلهم، ويتركون مصاطب الكسل، وهم يتمتمون بكلام عجيب، كانت أياديهم تتشابك وراء ظهورهم، والطائرات تقصف بغداد. وظهرت على شاشة التلفاز في دكان أبي محمود صور الجنازات الجماعية لأطفال غزة. بقيت الأمواج تقصف الشواطىء بالرذاذ، وظل أبو سعدو يتساءل، ويتساءل عن العولمة والقرية الصغيرة، وعن المختار الذي يستحم بالدماء صباح مساء!!‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية