إن ما أورده الأسلاف هو طريقة قياسية وقوانين عامة نضعها أمامناحين نريد الكتابة، إضافة إلى تجديد دائم يفرض التطور الحاصل حيث نتفق جميعاً على أن الكتابة صناعة تحتاج كسواها إلى أدوات متعددة تتعلق باللغة والمعرفة والتدريب والإبداع.
كما أنها فن يحتاج إلى الموهبة التي تضفي لمسات من الذوق والجمال على أي مادة أدبية والقاعدة الأساس في ذلك كله هي العمل الذي تنضوي تحت سقفه أساسيات الجهد والتواضع وإنكار الذات.
لقد قام الباحث شارلي بريبان في كتابه، مهنة الكاتب، باستقراء إجابات كبار الكتاب الفرنسيين على سؤال وجهه إليهم واحداً واحداً، فأتت ردودهم على الشكل التالي:
قال فولتير: الكتاب المعقول هو الذي يعلم شيئاً.
قال مونتاني: إنني أكتب لأعرف نفسي.
قال بوالو: أعمل من أجل المجد.
قال موليير: قاعدة القواعد كلها هي الإمتاع.
قال بلزاك: إن مهمة الكاتب تنحصر في البحث الواعي الدؤوب عما أغفله مؤرخو الحضارات القديمة من تفصيلات ذات دلالة أخلاقية عميقة قال أناتول فرانس: الكتابة نوع من المشاركة الحقيقية في الحياة الاجتماعية والسياسية.
قال سارتر: الكتابة عمل إبداعي لا يتم إلا في إطار المجتمع، ومن خلال تفاعل كامل مع شتى المواقف.
إنه استعراض سريع لأدباء ومفكرين من مجتمع مختلف عن مجتمعنا، ولو طرحنا السؤال ذاته على مجموعة من أدبائنا المحليين، لما اختلفت الإجابات كثيراً، لأن الهدف العام من الكتابة واحد، والمؤدى واحد، مع بعض الاختلافات المتعلقة بالتجارب الخاصة، والجو العام، والظروف المحيطة.
ومنذ أن تحولت الكتابة إلى عملية مجتمعية، وظهرت دور النشر، وبدأت الصحف والمجلات تدخل كل بيت تحولت الكتابة من عملية ذهنية حرة غير مقيدة، إلى مهنة والتزام ومواعيد وقراءة وطباعة وتوزيع، وأصبح الكاتب ملتزماً بموعد ثابت، وباب ثابت، وعليه أن يطارد الأفكار ويبحث عنها هنا وهناك، حتى إذا أمسك بإحداها، ظاناً أنه عثر على الفكرة الطريفة الجديدة، اكتشف فوراً أن ما أتى به طرح مراراً وتكراراً، فيبدأ بالتحايل على الموضوع، يعطيه من ذاته وخاصيته، ويسقطه على موضوعات أخرى، محاولاً أن يقدم الجديد الذي يصلح للنشر والقراءة.
هناك فرضية تقول: إن الكتاب المطبوع قد وصل إلى خط النهاية، بعد الحضور القوي والمذهل للكتاب الالكتروني حيث تحولت الشبكة العنكبوتية« شبكة الانترنت» إلى صفحة مفتوحة على العالم كله لنشر الكتاب أمام الملايين دون الحاجة إلى حبر وورق وطباعة ومساحات واسعة لنسخ الكتاب، ثم نقله، فما أسهل أن تحدد عنوان موقع ما، حتى تصل إلى المكان الذي تريد بأقل وقت ممكن، وهناك تقوم بقراءة المكان بطريقة عصرية، قد يرافقها الصوت وترافقها الحركة، حيث أصبح من السهولة بمكان أن تتصفح الكتاب بألف طريقة وطريقة، لقد وفرت التقانة الحديثة وسائل للقراءة والبحث والمطالعة لم تكن متوفرة أو معروفة حتى في الخيال.
من هنا تلحظ قوة حضور الكتاب الإلكتروني وانتشاره على مساحة واسعة وامتلاكه القدرة الاستثنائية للتواصل مع المهتمين لكننا نعود إلى صياغة السؤال بصورة أخرى: هل من المعقول أن تصل التقانة إلى حد إلغاء حضور الكتاب الورقي بأي شكل من الأشكال؟..
أعتقد أن هذا غير معقول.
فالكتاب الورقي سيبقى حاضراً بشدة، لأنه الأقرب إلى الطبيعة الإنسانية في جميع حالاتها، ولأن القارئ لا يستطيع التآلف مع الكتاب الالكتروني على مدار السنوات الطويلة القادمة، إضافة إلى أنه لايحمل روح الكتاب الورقي الذي يحيط الإنسان بالألفة والجمال والحميمية.
فأنت كقارئ تشعر أن الكتاب الورقي قريب منك، ومعانق لذرات جسمك، وبصمات أصابعك، وملامح وجهك، وكأنه في بعض الأحيان يحاول أن يداخل دقات قلبك كل شيء فيك يستدعي هذا الكتاب، ليكون رائعاً بين يديك في دفئه.
من هنا أدعي أن الكتاب الورقي سيكون موجوداً ولن يغادر، فهو يشعرنا بارتقاء قاماتنا، وبانفتاح عقولنا على طول الحرف وعرضه.
أتمنى أن يبقىالكتابان- الورقي والإلكتروني- رفيقي درب.
فإن سيرهما معاً يزيد من مساحة الثقافة،ويرفدها بالجديد المفيد، وكلما اتسعت الدائرة، ازدادت أهمية المعرفة، إنه الرفد الفني، المحرك، الباني، المعزز الذي يجعلنا نشعر بصداقة الكتابين معاً.