، لقد قيل الكثير عن أمتنا مما هو إيجابي في ماضيها حتى وصفت عند علماء الاجتماع بالأمة الهاضمة أي إن جميع الموجات الاستعمارية التي توالت عليها هضمتها وعادت قوية لتولي دورها الإنساني كأمة حية قادرة على الانبعاث، والمواصلة في سيرورة الزمان والنهضات وعلماء الأنثروبولوجيا قالوا عنها: إنها أمة تستدعي حضاراتها من منظور قيم وجودها الموغل في القدم وترسم مضامين هويتها من نزعتها الكفاحية ضد الاستبداد والظلم الآتي من خلف الحدود وهي بهذا فعلاً تتسم بخصب الحيوية والإبداع وقابلية التجدد والبعث.
ورغم ما قيل ويقال فيها نحفظ بيتاً من الشعر لشاعر قال: أمرتهم أمري بمنعرج اللوى فلم يستبينوا الرشد حتى ضحى الغد وما يوحيه لنا هذا البيت هو التلكؤ عن استشعار اللحظة التاريخية واكتساب معطياتها بمنطوق المثل السائر «إذا هبت رياحك فاغنتمها» وعليه فكم هبت للعرب رياح في عصرهم الحاضر، ولم يغتنموا طاقتها؟! حتى وصلنا إلى ما نحن عليه قبيل مؤتمر قمة الدوحة الحادية والعشرين، ولو أن الإيقاع قد تبدل بالمصالحات وبالرغبة في توطيد التضامن العربي، والانطلاق من قراءة صحيحة لمعطيات عالم يتحول عبر أزماته البنيوية والاقتصادية ومجمل ما كانت الليبرالية قد اعتقدت بأنها أتت بالنظام الحر القائم على قاعدة «دعه يعمل دعه يمر» وليس هنالك حلول مجترحة بعد تستطيع به الرأسمالية ترميم نظامها المالي الدولي وحتى نظامها الاجتماعي والاقتصادي بكامله.
وبناء عليه فمن الممكن أن تعود البشرية في القادم القريب من الزمان إلى قلب نظرية الرأسمالية في الدولة الحرة واقتصاد السوق الرأسمالي الحر إلى تحرير الدولة واقتصاد السوق المضبوط والموجه والحال عليه فإننا في التحول العالمي المعاصر وقبيل انعقاد قمة العشرين الاقتصادية في لندن نستشعر بأن اهتزازاً وقع ولاسبيل إلى الخروج منه لدى القوى التي اعتقدت بنصر دائم في أعقاب المتغيرات الدولية الدراماتيكية التي انتهت في غرة العقد الأخير من القرن الماضي وظهرت بنتائجها هيكلة جديدة لنظام العالم القطبي ومن ثم حكم على انتصار كبير للعقيدة الرأسمالية وانكسار كبير للنظام الشيوعي العالمي.
ومداليل ما هو عليه حال قوى الرأسمال والعولمة والخطاب الامبراطوري تشير إلى أزمة ليس بمقدورهم الخروج القريب منها ومع هذه الأزمة تنمو معطيات في السياسة الدولية أيضاً لم تكن من خياراتهم والتحول إلى عالم متعدد الأقطاب وهزيمة الغطرسة العسكرية والقبول بالمصالح المشتركة، وبالشراكة بدل الهيمنة وبالحلول العادلة بدل الحلول المفروضة هو ما يصبح المحرك الواقعي لعالم ما هو قادم علينا، ومن هذا المنظور نتلمس الأبعاد اللازمة لنا كعرب وهي في الآفاق الإستراتيجية تمثل لحظة تاريخية رياحها مؤاتية واستثمارنا لها واجب حيث إن جبهة الأعداء تؤول إلى ضعف مؤكد وإن ما لدينا من قوى مادية ومعنوية ينقلنا من دائرة التأثر السلبي إلى دائرة التأثير الإيجابي والمبادرة المنتصرة والإمساك القوي بزمام التحول التاريخي الذي ما كنا نفكر به بأنه سيكون بهذه الملاءمة المحظوظة في حاضرنا العربي، وما علينا سوى أن نحول ما تمخضت عنه قمة الدوحة إلى أساليب عمل وآليات تنفيذ وإدارة سياسية ودبلوماسية ناجحة، ومهما بدت عليه عنصرية الكيان الصهيوني الذي أصبح بإدارة الليكود وغلاة المتعصبين أمثال ليبرمان وحتى مجرم الحر باراك ستبقى اللحظة التاريخية المعاشة تجسد أزمة القوى الامبريالية وتؤشر إلى فشل ذريع في مشروعاتهم العنصرية، وما استنهضت حرب المحرقة على غزة من روح إقليمية ، إسلامية مساندة للعرب أو من روح عالمية لدى الأمم في جميع القارات كارهة لنازية الكيان الصهيوني ومطالبة بتقديم قادته إلى المحكمة الدولية حتى تتم محاكمتهم بجرائم ضد الإنسانية، وكان قد أشار إلى هذا المطلب مؤتمر القمة ووضع آفاق ما يمكن أن تسير الأمور عليه.
إن هذا الحال الإقليمي والدولي يجعل العرب أقوى من كل لحظة مرت عليهم في تاريخ الصراع بينهم وبين الصهيونية وكيانها والقوى الامبريالية الملتزمة بدعم واسناد هذا الكيان العنصري الغاصب، ولعلنا كعرب بعد هذه القمة التي استهدفت تعزيز التضامن العربي نعيد قراءة خطاب بن غوريون حين كان المستوطنون شذاذ الآفاق يحتفلوم بقيام كيانهم العنصري في 15/5/1948 فقال لهم هذا الأخير إنكم تحتفلون بانتصاركم في قيام دولتكم إسرائيل ولكن عليكم أن تعلموا أنكم انتصرتم ليس بما تملكون من قوة وإنما بضعف العرب فإذا كانت إجابتنا على هذا القول بتجميع القوة العربية وجعلها في إستراتيجية عمل عربي مشترك ضمن نهج المقاومة بشمول أطيافها وتنوع أشكالها وثقافتها وعبر المؤسسة العربية الجامعة في السياسة والاقتصاد والثقافة والاجتماع والقوة العسكرية فسوف تتغير دون شك الكثير من قناعات المجتمع الدولي والشرعية الدولية وحتى العدو الغاصب ويلجأ الجميع إلى منطق يقر لأصحاب الحقوق حقوقهم ويلزم الأطراف المستكبرة بالتزام القرارات الدولية ذات الصلة 242-338-194 وتتحول قاعدة حق القوة إلى قاعدة قوة الحق التاريخي.
والقوة العربية هي بالنهاية خريطة الطريق الحقيقية، وآن الأوان وعالم اليوم تحولاته تخدمنا أكثر مما تخدم العدو أن نستعيد تجميع القوة ونظهر أمام المجتمع الدولي على أننا أمة قوية شجاعة هاضمة كما أظهرتنا به نتائج المقاومة البطلة في الجنوب وغزة ويكتسب إعجاب العالم ومن الضروري أن نستثمره ونبني عليه.