كان الشعراء يموتون عشقاً... فأصبحوا يموتون من الضجر !! كانوا فرساناً يقفون في خيوط التماس والنار يصنعون المعارك ويكتبون شعر الحماسة.. أصبحوا مثل الآخرين يتابعون الأخبار على شاشة التلفاز أو يعملون موظفين في الصحف.
من منا لم يخن الشعر بطريقة أو بأخرى فكيف لا يخوننا الشعر بدوره؟ وكيف لا يغادرنا الشعراء واحداً واحداً في هذا الزمن المضاد للشعر.
غادر الشعراء أوطانهم مكرهين مثلما حدث في العراق صوب جغرافيات أخرى، قد لايلائمهم هواؤها، فيمتد بهم العمر حتى يبلغوا من الإبداع عتياً وقد لا يلائمهم... فإذا هم مصابيح معطلة على أرصفة الغربة..
غادر الشعراء قصائدهم أحياناً صوب أجناس أخرى قد يسلس لهم قيادها، فيطلون علينا من غير قمة وقد تحرن مطاياهم الجديدة غير بعيد عن السفح.
غادر الشعراء مناصبهم السامية احتجاجاً على الصنيع اللفظ لأنظمة بلدانهم في هذه النازلة أو تلك، فيخسرون كراسي واطئة يربح الشعر مقابلها قاماتهم الفارغة، بل إن منهم من تنازل لأجل الشعر عن رئاسة دولة في قارة لا تتنازل فيها حتى الجثث عن حصتها من الذباب، فيما يصعد شعراء الطوائف قصائدهم الذريعة سلماً نحو سدة الوهم..
لم يعد الشاعر ذلك الشاعر.. فقد جعل يؤاخي بين الأجنحة كافة، من جناح البعوضة حتى جناح الرخ في سعي عنيد منه لإعادة تركيب ولو جزء صغير من المرآة عسى أن يكون الجزء حيث عين الحقيقة، العين المسمولة وهي تحدق بشماتة في شتى أنحاء العالم.
غادر الشعراء الكبار والشعراء الدجار، غادر الشعراء الصعاليك والشعراء المماليك، غادر الشعراء الشعراء..
منهم من عرف الدار بعد توهم وحارب من أجلها بكلمته المقاتلة ومنهم من عرف الوهم دون تردد ومنهم من ضيّع الطريق الوحيد إلى عقره.
لا غرابة إذاً إن جاءت قصيدته شعثاء مثل كومة من الريش ولا غرابة إن استعارت بعضاً من أصوات الغابة.
العالم غزير الضوء والشاعر لايزال يحمل مصباحه ويغدق عليه من زيت القلب كيلا يتوقف وجيب الضوء.
تلك طريقته في التوجس من هذا السطوع العظيم فقد رأى فيما يرى الشاعر أن العالم سيصاب بسكتة ضوئية مفاجئة، ترديه جثة حالكة... ساعتها سيظهر الوجه الحقيقي للخوف من مرآة الظلام الكبير ولا أحد غيره ويفضل مصباحه النادر الذي يذرف أجنحة الضوء سينعم برؤية الوجه البهي، ذلك الوجه الذي يشبه تماماً عين الحقيقة.
مات عنترة مذ لم تعد لنا سيوف تذكره بثغر عبلة ومات أبو فراس الحمداني مذ أصبح (عصي الدمع) والحبر معاً يوم اكتشف أن النساء لا يعشقن كل هذا العذاب وأن لا أحد يموت (ظمآناً) في هذا العصر.
مات المتنبي يوم مات (سيف الدولة) وبحث عبثاً عن حاكم عربي آخر يستحق المدح فلم يجده، وانتحر أبو نواس وهو يبتلع زجاجته الأخيرة ويكتشف بدوره أن القضية أكثر تعقيداً مما كان يتصور وأن الخمرة لم تعد (داءه ولا دواءه)..
مات امرؤ القيس بعد ما بكى طويلاً (كعادته) واكتشف أن فاطم لم تعد جميلة في زمن الماكياج والأثواب القصيرة وأنها لم تعد اليوم المرأة التي يصعب العثور عليها (بين الدخول فحومل)، بعدما وصلت سيارات (الكاديلاك) و(الروز رويز) إلى كل خيمة عربية، كم من الشعراء انتحروا مذ أصبح النفط حبرنا الوحيد.
فماذا تكتبون أيها الشعراء وماذا عسى الشاعرات يكتبن؟... ليس هذا زمناً للخنساء ولا لرابعة العدوية ولا لولادة بنت المستكفي..
منذ أصبح كل عربي مشروع شهيد وكل شهيد اسمه صخر... ضيعت الخنساء قبر أخيها ولم تعد تتقن الرثاء.
قلبنا يمضي لأولئك الذين يكتبون في تشردهم وحصارهم قصائد الصمت المكابر.. في العراق وفلسطين والجولان وجنوب لبنان والصومال ودنيا العرب.
أنتم الذين ستموتون في حادثة حب أو حادثة شعر يا آخر سلالة بوشكين ولوركا وأمل دنقل وخليل حاوي وأبي القاسم الشابي ومعين بسيسو.
أنتم الذين ستموتون ككل المبدعين بالذبحات القلبية، بالرصاص، وبأمراض هذا العصر، فالشعراء فراشات لا تعمر طويلاً إنما البقاء للتماسيح والفيلة.
تعلموا كيف تفتخرون مسبقاً بنهايتكم..
افتخار الآخرين بتفاهتهم..
افتخار الحكام بجرائمهم..
افتخار اللصوص بغنائمهم..
افتخار الوصوليين بوظائفهم...
وكان الله في عون الشعراء في محنة هذا العصر العربي الرديء.