هكذا بدأت أم فارس حديث ذكرياتها عن حياتنا في قريتها بالجولان الحبيب وأضافت: يتسابق مع اليوم كي ننهي أعمالنا المتعددة فالمرأة تعمل داخل البيت وخارجه فهي تجمع الحطب والزبل للشتاء، ونضعهم في «الكانونة» وأيام الحصاد نسلق القمح وننشره حتى يجف ونأخذ القمح للخبز والباقي للبرغل وأذكر أن ابنتي الكبرى لم أستطع أن أرسلها للمدرسة كي تعتني بإخوتها أثناء غيابي أما إخوتها الصغار فقد تعلموا جميعاً وهم يمارسون مهنة التعليم بلا استثناء.
وتتنهد أم فارس وتقول: المرأة تعبت في ذلك الزمن كثيراً، ومن أين تأتينا تلك القوة على تحمل مشقة العمل، ننتهي من عمل ونبدأ بالذي يليه مباشرة.
واليوم بعد مرور السنين أشعر أن شيئاً يوقظني باكراً وأظن نفسي أن وقت حلب الغنمات قد حان.. ثم أتذكر بحرقة أنني لم أعد في الجولان وإنما أعيش حياة الرفاهية في المدينة وأتحسر على تلك الأيام رغم أنها متعبة ولكنها جميلة فأرض الوطن غالية ولايعادلها شيء ولنحب وطننا ونفديه بالدم والروح.
وأرى في عيون أحفادي حبهم لقريتنا وهم دائماً يسألوني عنها ويقولون لي لماذا ياجدتي لانسافر أيام العطلة إلى قريتنا؟! وأخبرتهم الحكاية وهم متشوقون لعودة الأرض ورؤيتها كما وصفتها لهم فهي أرض جميلة وخصبة وهواؤها عليل وخضرتها نضرة، ومياهها عذبة، وتتذكر أم فارس رفيقاتهاوجارتها وتقول: بقيت منهن واحدة وتسكن بعيدة عن منزلنا ومع هذا نتزاور في المناسبات ونتذكر أيام طفولتنا ولعبتنا القماش التي ظلت رفيقتنا حتى كبرنا وتجوزنا وعندما نرى ألعاب اليوم وأشكالها نضحك على ألعابنا وبيوت الطين والصحون الطينية التي نصنعها مع أدوات المطبح..حتى ألعابنا كانت تصب في صميم عملنا في الطبخ والتنظيف.
وأقولها صراحة: إن بناتي عدا الكبرى لم يعملن في الأرض لأن التعليم دخل قريتنا وهن في سن التعليم ولهذا فإن الأحفاد يسألوني عن الضيعة مع أن بناتي يتذكرن ماكنت أقوم به من أعمال وأيام عطل المدارس يذهبن معي إلى الحوش مع قريباتي وجاراتي وكن يلعبن حتى ننتهي من عملنا وأحياناً كثيرة يأكلن الخبز مع الرشاد والهندبة التي نحوشها، وحتى اليوم يطلبن مني بعض الأكلات الجولانية مثل دحاريج البرغل مع اللبن واللزاقيات والكربوج والبحتة وهذه الأكلات تعد الآن من التراث الجولاني الذي حاولت أن أعلم بعضاً منها لبناتي والبحتة على سبيل المثال هي الرز والحليب وهذه الأسماء أعلمها لأحفادي وحفيدي الصغير معين وهو في الصف الثاني يجلس كل يوم ويقول لي: ياستي حدثيني عن الضيعة وبيتنا هناك وأخبره عن شجر التوت والتين البعل الذي يعتمد على مياه الأمطار ولا يسقى وطعمه كالعسل، وعن أعشاش العصافير وزقزقتها التي تملأ صباح القرية وعندما ألفظ كلمة لايعرف معناها يقول: انتظري ياجدتي حتى أحضر دفتري الصغير والقلم كي أكتب الكلمة ومعناها الآن ووعدني أن يعلم أولاده في المستقبل اللهجة الجولانية ومفرداتها الجميلة حتى تبقى في الذاكرة وعند العودة إن شاء الله سنتكلم الكلمات التي كان يتقنها أجدادنا ونعيد اللحظات الجميلة.