انزوى في زاوية بعيدة، وأدار ظهره للموجودين, وراح يعبُّ السيجارة (بقفا) الأخرى، متأملاً الجدار، هؤلاء الناس غريبو الأطوار يسترعون انتباهي. أتمنى لو أجلس إليهم العمر كله. لا بد أنهم يكتِّمون آلاماً وأحزاناً.. يذكرونني بقول أحد الأدباء المفكرين: « ما من شيء يجعلنا عظماء كألم عظيم»! يبدون بهيأتهم وكأنهم يختزلون حكمة العالم. بحثت كثيراً عن طريقة غير حشرية لأتقرب منه كي أعرف أي إنسان هذا، وما الذي يخفيه وراء سحنته المبهمة تلك؟!
أخيراً جاءت على قدميها. دخل هذه المرّة مع شاب آخر أعرفه. (سأتحرش بهما).. واتخذا طاولة ورائي, بحيث كنت أسمع حتى حشرجة رئتيه بهمجية التدخين.
كثيراً ما تعرف إنساناً من كلمة.. من جملة يقولها أمامك.. أما أن يصعب عليك معرفته إلاّ بعد مرور ثلاثين عاماً فكم يلزمك من زمن لتعريته؟! ستتمنى حينها وأنت تضحك من عمق الأسى ألاّ يكون القدر قد منحك نعمة المعرفة هذه..
حتى اللحظة التي رنّ فيها خليوي الشاب الذي يرافقه, لم أكن قد سمعت صوته، ولكن الشاب راح يتكلم على الهاتف، وما إن سمع الصوت على الطرف الآخر حتى صرخ قائلاً: «قلت لكِ ألف مرّة.. لا تتصلي بي عندما أكون في القهوة.. ماذا تريدين؟ ليس معي الآن ليرة واحدة.. إلى جهنم أنت وأولادك.. أف»
أغلق الهاتف، ثم وجّه حديثه إلى ذلك الرجل قائلاً: « يا رجل.. المرأة مثل البصلة كلما قشرتها لتعرف حقيقتها كلما فاحت رائحتها! أنا زوجتي نكدية.. نكدية.. جربت معها كل وسائل التعامل فلم أفلح.. جربت الحب والمسايرة والملاطفة والقسوة والتوبيخ.. وجربت الضرب.. لكن محال.. ما هذا المخلوق العجيب؟!»
عندها ضحك (عاتل) الهم ذاك، وقال بصوت غليظ مشوب بخفة دم: « أخي إذا أردت أن تتخلص من هذه المشكلة فيجب أن تتعامل بحكمة مع هذا الأمر.. افعل كما فعلت أنا..»
عندما قال هذه الكلمة اجتاحني الفضول، فأخذت قلمي ورحت أكتب حرفياً ما دار بينهما، سأله الشاب بلهفة متوددة:
- وماذا فعلت أنت؟
- أخي إن سبب المشاكل مع الزوجة هي الأمور المادية بالدرجة الأولى، أما من يقول لك إن كيد النساء هدَّ الرجال فهو مخطئ.. لا توجد امرأة مكيدة، وإنما يوجد رجل غبي.. اسمع كيف عشت مع زوجتي ثلاثين عاماً دون أن ينزعج أحدنا من الآخر، ثلاثون سنة في حب ووئام وتفاهم ورومانسية..
قال ذلك بحكمة رصينة راعتني.. فمن المعروف أنه لا توجد طريقة ناجعة للتعامل مع المرأة.. إذاً فأي أسلوب اتبع ذلك الغريب كي يعيش مع زوجته في حب ووئام طيلة ثلاثين عاماً؟ سأله الشاب بلهفة:
- ثلاثون سنة من الحب والتفاهم والرومانسية؟!
- نعم.. نعم.. أنا خططت لهذه الحياة منذ اللحظة الأولى التي تزوجت بها.. الرجل الذي لا يمتلك الحكمة.. إنما هو رجل أصم.. يشبه اللون الأسود..
- هات نورني.. ماذا فعلت..؟!
- المرأة مخلوق مرهف شفاف.. وفي داخل كل أنثى كلمة سر، وما عليك سوى معرفة الحيلة لتفتح بها بوابة الأنوثة.. وبالتالي بوابة سعادتك.
- أخبرني كيف.. تكاد روحي تخرج!!
- الأهمية.. الأهمية يا صاحبي.. عندما تحس المرأة بأهميتها تكون قد انتزعت أنت من نفسك نصف عناء ومشقة الحياة، وربما كلها.. ورميتها عليها.. أنا يا سيدي منذ ليلة زواجنا اقتسمت هموم هذه الحياة الرديئة بيني وبين زوجتي..
- وكيف؟
- أوكلت لها أمور الحياة الداخلية، فيما استلمت أنا الأمور الخارجية..
- أمور الحياة الداخلية والخارجية؟!
- نعم.. تسلمت هي مشاكل الأمور الداخلية في البيت كونها المرأة، وأنا تكفلت بالأمور الخارجية كوني الرجل..
- وكيف حدث ذلك؟
- خذ مثلاً.. أنا أشتغل في معمل للألبان منذ ثلاثين عاماً، عندما أعود إلى البيت آخر الشهر أحمل راتبي تفاجئني زوجتي الجميلة الهادئة وراء الباب، تنظر إلي بحنان، وتمد يدها قائلة: « هات الراتب.. حبيبي» وعندما أعترض أنه يتوجب علي إيفاء بعض التزاماتي تصرخ بي غاضبة: « هات الراتب..» وعندها أفكر بحكمة الرجال, فأعطيها الراتب.. وهل أتشاجر معها من أجل أمر داخلي تافه مثل هذا؟
- وتعطيها كل الراتب؟!
- كله نعم.. لأن هذا الموضوع داخلي.. من الأمور الداخلية ما علاقتي أنا به.
- ( أي وبعدين؟)
- على سبيل المثال تقول لي زوجتي الرائعة الشفافة: نريد أن نصطاف على البحر، فأقول لها وأنا أضمها: حبيبتي إن وضعنا المادي لا يسمح، فتزعق غاضبة: قلت لك إنني أريد أن أصطاف على البحر!!
- وهل توافق؟!
- بالتأكيد.. ولو استدنت مصروف الاصطياف, هل تريدني أن أجرح مشاعرها من أجل أمر داخلي حقير كهذا؟ أنا رجل... والرجل يجب أن يكون مسؤولاً عن أمور مفصلة على مقاسه.. مشاكل على قدر رجولته.. مشاكل خارجية.
- نعم.. أكمل.. وماذا بعد؟!!
- مثلاً تريد زوجتي المهذبة المطيعة تغيير أثاث البيت، وعندما أعترض بلباقة، تصرخ هي: قلت لك أريد تغيير أثاث البيت! فأغير لها أثاث البيت, وهل أتشاجر معها من أجل أمر داخلي تافه كهذا؟ وإن أرادت أن تشتري بكل مرتبي ثياباً لها، فلتشتر.. أو ذهباً فهي حرّة.. وهل أزعجها من أجل سبب داخلي صغير كهذا؟! حتى إن أرادت تغيير البيت أو الحارة..
- لا تقل لي إنك تنزل عند رغبتها وتغير البيت!!
- بلى.. وهل أغضبها وأتقاتل معها من أجل سبب داخلي ووضيع كتغيير البيت.. لقد جعلتني أغير البيت عشر مرات منذ زواجنا، ومنذ أسبوعين أحبّت أن تسكن في هذه الحارة, فنزلت عند رغبتها؟
- تكاد تجنني يا رجل!! وما هي الأمور الخارجية المسؤول أنت عنها؟ متى تتشاجر مع زوجتك أو تزجرها؟! متى تصرخ بوجهها؟!.. متى تغضب وتغضبها معك.. متى تضربها؟
اعتدل ذلك الرجل بجلسته، وقال بلكنة رجولية مهددة:
- مثلاً أنا لا أسمح لزوجتي أن تتدخل عندما أناقش مع صديق لي قضية كبيرة وخارجية كقضية دارفور أو احتلال العراق.. على سبيل المثال.. فعندها سأقلع عينها.. فهذه أمور خارجية لا علاقة لها بها.. وعندما أبلغ ذروة غضبي، وقبل أن أغضب.. أعد إلى العشرة، وأصعد إلى سطح البيت، وأتمشى ساعة.. ساعتين.. ثلاثة.. أربعة.. خمسة.. وها هي السنة الثلاثون على زواجي وأنا أتمشى على السطح.