همنغواي الذي كان يلقب «بابا» لمجرد أن يقف القارئ أمام صوره ينتابه شعور أنه يقرأ قدر هذا الرجل غير العادي من خلال الصور، ومع الذكرى الخمسين لوفاته نقلّب وبشغف صفحات ألبوم رائع أعدته حفيدته مارييل ولانفاجأ عندما نستنتج مرة أخرى أن كاتب رواية «وداعاً أيها السلاح» كان بلاشك أحد أهم كتاب القرن العشرين الذين فهموا بشكل كبير سلطة الصورة وأبعاد طريقة إخراجها على الشاشة.
وكان همنغواي يتمتع بمظهر لائق بدنياً يساعده على ذلك من حيث الوجه والجسم الرياضي ولم يكن ذلك غريباً عليه، فهو مهووس بالرياضة ويعشق روح المغامرة ومواجهة المخاطر، أيضاً مارس المصارعة والذهاب إلى ساحات الوغى ليجابه وحيد قرن أو أسداً على سفوح جبال كيلمنجارو، كما شق عباب البحر وتحدى سمك القرش في عرض بحر كيويست.
لم يكن هذا الرجل يخشى شيئاً، بل كان يجد متعة وسعادة لاتوصف في مغامراته والأمتع لديه حين يعلم أن أحداً من نظرائه الأدباء الأميركيين مثل فولكنر أو فيتزجيرالد أو دوس باسو ليس باستطاعته أن ينافسه، وكان يعلم أن الأجيال القادمة سوف تحفظ في ذاكرتها اكتشافاته واستعراضاته التي كان يبالغ بها لدى وقوفه أمام الكاميرات لالتقاط الصور.
لقد كان همنغواي على حق فحتى اللحظة لايزال سحره أخاذاً، فها هو الرجل الناضج تحيط به النساء وهو مسترخٍ في صورة رائعة لها إطارات من الغزل أو ذاك الأب إلى جانب أولاده الثلاثة باتريك وجون وغريكوري في صورة أخرى أو رجل الفكر الذي يكتب قصصه واقفاً في روايات سيكون لها وقعها على أجيال متعددة من القراء، أو صورة صياد السمك وصياد البراري أو هاوي مصارعة الثيران وبجانبه النساء الجميلات وأكواب الخمر اللذيذ.
يبدو همنغواي وكأنه لم يعش إلا لتحقيق رغبة بسيطة عبّر عنها الراوي في رواية «باريس في عرس» بالقول: «لنحاول أن نكون سعداء قدر المستطاع» غير أنه انتظر زمناً طويلاً للوصول إلى هدفه محاولاً أن يقيم مصالحة بين الفعل والتفكير بين الكتابة والالتزام بين الانفراج والملذات، فهكذا نراه من جديد في صوره في فينيسيا وباريس في مدريد وهافانا وميامي مع غاري كوبر وآفاغاردنر ومع الزعيم كاسترو ومع جيرترودستن ومارلين ديتريش وسكوت فيتزجيرالد.
نراه دوماً محتفظاً بكبريائه وتقدمه على الآخرين كما تعرض في الألبوم صور نادرة وأكثر تأثيراً هي الصور المجهولة له قبل أن يصبح معروفاً تحت عنوان «همنغواي قبل همنغواي» إنه ذلك الصبي ذو الخامسة من عمره يجلس أمام الكاميرا وهو يحمل في يده إناء مستديراً من الحساء ويعتمر قبعة كوبوي وفي اليد الأخرى يحمل بندقية، كذلك نرى صوراً تعود إلى الزمن الذي التهبت فيه روح همنغواي بحب المغامرة والفترة التي كان يقرأ فيها بنهم مغامرات هوكلبيري وتفتنه رواية الرئيس روزفلت المعروف عنه شغفه بالصيد، الرواية التي تتحدث في تفاصيلها عن صياد أميركي يجوب إفريقيا، ويبدو أنه في ذلك الوقت ولد الحلم عند الشاب آرنست لأن يخوض غمار الرحلات والسفر والمغامرات حيث بدأ يخط حلمه بخطوط فوضوية على دفاتر صغيرة يضعها في جيبه لنرى بعد ذلك أن الحلم قد تحقق.
من الصور المنشورة أيضاً صورة كبيرة التقطت في كي ويست يظهر فيها آرنست ضاحكاً متكئاً على سيارة وإلى جانبه والدته غراس وزوجته الثانية بولين يقابله والده كلارنس ولم يكن الشاب يعلم أنه بعد التقاط تلك الصورة سوف تهوي الصاعقة على العائلة ولن يرى أباه بعدها على قيد الحياة لأن الأب انتحر بمسدس حربي.
ومع أن أرنست اعتبر فعل الانتحار يومذاك فعل جبان ولم يسامح أباه على ماقام به غير أنه استوحى منه فيما بعد وقرر أن ينهي وجوده بالطريقة ذاتها وكان ذلك في الثاني من تموز عام 1961 بعد أن دخل همنغواي اسطورة القرن العشرين من بابه الواسع.