تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


وداع سلمى

شباب
2011/7/25
ريما اسكندر عباس

دخل مسرعاً إلى بيته الذي بالكاد عرفه بعد أن زاغت عيناه وأحس بسحابة ثقيلة تحل على دماغه، ألقى نفسه على الكرسي الخشبي العتيق، وضع رأسه بين يديه، أحس بعينيه تدوران وأرض الغرفة

المظلمة تدور به، حاول أن يعيد عقله الحائم حوله كذبابة تحوم حول الضوء، حاول أن يركز، يفكر ماذا حصل، كيف غادر تلك المروج الخضراء والقصور العالية التي بناها؟‏‏

وأين تلك العصافير المغردة التي كانت تملأ صمت الفراغ بأنغام من نسج الفرح؟!‏‏

لماذا وجد نفسه فجأة في صحراء قاحلة لا شيء فيها إلا الرمال؟ إنه ظمآن يريد قطرة ماء واحدة يصرخ عالياً ما من مجيب إلا صدى صوته اليتيم خمس سنين، أجل خمس سنين من الانتظار عاش فيها اللحظة باللحظة كطفل يحلم بلعبة جديدة.‏‏

كلا لم تكن حتى هذه اللحظة فترة طويلة عنده لأنه عشق مرور السنين فخلفها ينتظره بر الأمان‏‏

آه...آه إنه لا يستطيع أن يستوعب كيف سيأتي صباح يوم جديد سوف لن يستيقظ فيه مبكراً مسرعاً للقاء سلمى...‏‏

سلمى تلك الفتاة الجامعية التي تتقدُ عيناها ببراءة طفولية لم يشهد لها مثيل والخجل يتسلل بين كلماتها ونظراتها, كانت سلمى تعني له حياته بكاملها, أفراحها,أحزانها,فبسمة ثغرها تمحو أحزانه برقةٍ كما يمحو المطر الظمأ، وعيونها المشعة بالحنان والبراءة تبلسم كل جراحات قلبه، ودمعة سلمى تعادل أصفاداً من الحديد تكبل قلبه ولكن؟ كيف حصل هذا، كيف اختطفها ذلك المارد الرهيب بدون أي سابق إنذار، بدون حتى كلمة وداع.طرق على الباب يقطع عليه أفكاره. إنه ابن الجيران يعلمه ببدء الجنازة,مسح دمعة غافلته بيده المرتعشة, نهض متحاملاً على نفسه, وغادر منزله مسرعاً.‏‏

جموع غفيرة من أهالي الحارة، تلك الحارة التي تربيا فيها سوية, نواح النسوة, والنعش يتقدم محمولاً على الأكف, اندفع غير آبه بشيء حتى لامس النعش بأصابعه, أحس بالنشوة لبرهة إذ اقترب من سلمى, ومضى الموكب المهيب ورياح خريفية هائجة تعصف بالوجوه. ولما دخلوا المقبرة, أحس بالخوف فكيف سيدعهم يوارون سلمى الثرى إلى الأبد,حتى هذه اللحظة كانت سلمى معه, لكن الآن ما الذي سيبقى؟‏‏

تداعت في رأسه الذكريات وذكرى واحدة استولت عليه, في ذلك الوقت لم يفهم ما الذي كانت تقصده سلمى إذ قالت له:( أريد أن أطلب منك شيئاً يا سمير, أرجوك أن تحب الحياة طالما قلبك ينبض، لا تدع الموت يأسرك قبل حلوله فكلنا ياعزيزي راحلون عن عالمنا الفاني ولكل إنسان ساعة, فأرجوك إذا كان قلبك سينبض نبضة بعدي فاجعل حبنا منارة لطريقك الطويل ولا تجعله عاصفة تدمرك).‏‏

وكانت عيناها تشع بوميض غريب يذيب أقسى القلوب وكأن كل دموع العالم حبيسة خلف بريق عينيها وكل آهات العالم مختبئة خلف ابتسامتها الغامضة, الآن أدرك كم كان غبياً لقد كانت سلمى تودعه بدون أن تفعل, لم يكن يدري بأن خلف تلك الرقة الطفولية قوة وعزيمة يعجز أقوى الرجال عن حملها, إذ كان المرض يأكلها كل يوم ورأت الموت مراراً, لكنها أبت أن تنقل عذابها إلى من تحب فأبقته سرها الخاص,كلا لن يبدد ما كابدته سلمى من أجله، كلا لن يخون الأمانة, التراب ينهال على جسد سلمى وروحها تحوم حوله تملؤه بالحياة ومطر غزير يعُم المكان.‏‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية