نرى أن الحب المنزه عن الدنس هو الأبقى، وله الدوام والاستمرار.
قرأت شيئاً لأفلاطون بهذا المعنى، مشيراً إلى أن الحب الذي يبدأ بالحسيات ينتهي بالمثل، يولد على الأرض ويطير بأجنحة خفية إلى السماء، فالحب الأرضي هو الدرجة الأولى في سلم الحب، بينما الحب السماوي هو غاية الحب.
إن الحب المنزه عن الغرض هو الحقيقة الساطعة التي يجب أن نصونها وندافع عنها.
وسقراط نفسه يؤيد ذلك من قبل، ويعدد درجات الحب المختلفة فيقول: على من يسير في طريق الحب الطبيعية، أو يسعى للاتصال بالأشكال المادية الجميلة منذ صباه فيحصر حبه في شكل واحد يوحي إليه بالمفاخر العقلية، ثم أنه يلاحظ في الخطوة التالية أن الجمال في شكل واحد هو شقيق الجمال في شكل آخر، لذلك يتحول حبه العنيف من الشكل الواحد إلى الأشكال العديدة، ومن الشخص الواحد إلى الأشخاص الكثيرين، لأنه يلمح في جميع هؤلاء الأشخاص انعكاساً للجمال نفسه، ومن ثم ينتقل حبه من الأشكال المادية الحسية الجميلة إلى النفوس الجميلة، فجمال النفس المشرقة أرقى من جمال الأبدان وأبهى، وجمال الروح المستنيرة أوقع في النفوس، وأروع من الجمال الحسي.
ثم يقود هذا الحب النفساني المحب إلى حب المؤسسات والشرائع، فيصبح حب المؤسسة في نظرة أرقى من حب رئيسها بروحه وشريف عواطفه، كذلك يصبح حب العائلة أرقى من حب الزوج لزوجته اللذين يؤلفان هذه العائلة، كذلك قل في جمال كل مؤسسة أو شريعة أخرى.
وهكذا تنصهر نفس المحب في بوتقة الجمال، ويسير في طريقه الصحيح الممهد، فيرتقي من حالة إلى حالة حتى تتفتح عيناه على جمال العلوم الطبيعية، فيقبل عليها ويتعلق بها تعلقاً ينسيه أنواع الجمال التي مر بها.
هذا هو عشق العالم لعلمه، وهو أرقى من عشقه للمؤسسة التي أرضعته هذا العلم، يتذوق طعم العلوم ومرارتها الحلوة بعد أن يمر في أتونها، فتنجلي له عندئذ حقائق الفلسفة وجمالاتها فيتعشقها تعشقاً كلياً، ويخلص من ربقة عباءة الجمال في مؤسسة واحدة أو شريعة من الشرائع، حتى إذا أصبح فيلسوفاً بحكم محبته، وشغفه لفلسفته مرت به لحظات خاطفة لا تمر إلا بالحكيم الذي تفتحت آفاق روحه وارتفعت دنيا عقله فاتحد بالمثل العليا التي تكشف عنها الفلسفة، ولاح له قبس من الحق المطلق فعشقه عشقاً أبدياً خالداً، حيث وجد بينه وبينه تماساً لا تفصم عراه.
هذا الحق هو الجمال المطلق العجيب في طبيعته الخالدة، هذا الجمال الذي لا يمكن انتاجه، ولا يمكن إهلاكه، لا يزيد ولا ينقص ولا يشبه بقية الأشياء، من حيث إنها جميلة من جهة ومشوهة من جهة أخرى.
لا يمكن تصوره للذهن كتصور أعضاء الجسم الحسية، أو تصوره كعلم من العلوم، ليس له وجود معين في الأرض أو في السماء، أو في مكان آخر، ولكنه ذو شكل دائم، ثابت، ملائم لذاته، هو يمتزج بالحقيقة ذاتها، فهو أيضاً يخرج الفضيلة من ذاتها، ويتغذى بها، ويصبح عزيزاً لدى الأرباب.
هو نعمة إن صحت لكائن بشري، كان ولا شك خالداً خلوداً أبدياً.
قد يختلف سقراط عن أفلاطون، فإذا كان سقراط قد عمم فإن أفلاطون قد خصص، فهو القائل:
الحب له حبيب يشتهيه ويشتهي امتلاكه
وحبيب الحب هو الجمال
فالحب يشتهي امتلاك الجمال ولذلك فهو ليس جميلاً.
والجمال هو الخير، فالحب يحتاج إلى الخير كحاجته إلى الجمال.
وهو ليس جميلاً وليس خيراً بل هو بين الاثنين إنه شيطان.
والشيطان وسط بين الرباني والإنساني، هو يفسر الأشياء الربانية والأشياء الإنسانية بعضها لبعض، وهو وسط بين الفقر والغنى، وبين الجهل والمعرفة، لأنه ثمرة الحاجة التي أثمرت المضاجعة فولد الحب.
هنا ينقض سقراط أقوال زملائه في تشديده على تعيين حبيب الحب وهو دائماً: الجمال، وعلى اشتهاء هذا الحبيب وامتلاكه، ثم على أن الإنسان لا يفتش عن نصفه، إلا إذا كان ذلك النصف صالحاً جميلاً،لأن الإنسان في حبه إنما يحب الخير فقط.
فالحب هو الرغبة الصادقة في امتلاك السعادة وامتلاك ما كانت صفته الخير، والحب هو رغبة التوليد الروحي والجسدي بفعل حضرة الجمال، لأن القباحة والتشويه لا يلهمان النفس ولا يوحيان لها، والحب هو عشق الخلود في النفس والجسد، فهناك من يعتقدون أن خلودهم لا يكون بإنتاج الأولاد،لذلك فهم ينجذبون نحو النساء، ومنهم من تحمل نفوسهم أكثر من أجسامهم، فهم يبتدعون ويبتكرون كل ما هو ملائم للنفس، فيخلدون بما يخلفونه من آثار فكرية سامية كالحكمة والفضيلة والعدل، وما شاكل هذه الصفات التي رفع لها بنو البشر هياكل من العظمة والمجد لم يرفعوا مثلها لأي مخلوق بشري آخر.
شحوب
إلى شيرين محمود
دعيني أكمل الخروج من سطوة الجرح
لأن بنفسج الليل لم يستيقظ بعد
ولأن الشروق نام على مرفأ آخر
إنني مصاب بمرض اسمه الحب
بامرأة مضرجة بالسيف
هل أعد لك كم وردة بيني وبينك
كم وكم من مدن وقارات وبحار
كم من جبال وثلج وأشجار
بيننا ألف ألف قرية
وألف ألف مدينة
أخرجيني من هذا الوجع الفائض
أخرجيني من مواسم الأحلام والوسادة
أنت امرأة مطرزة بالصواعق والصراخ المبهم
فأنقذيني من هذا الصهيل
أشعلي ولو شمعة واحدة في هذا الليل
أنا الجثة المعلقة في الفضاء
لا نهاية لحبل مشنقتي
أيتها الجميلة
لا يليق بك سوى صحو النرجس
لا يليق بك سوى مملكة أنا أحد عبيدها
ها أنا أمام المرايا فلا أبصر نفسي
ها أنا تحت هجير الجمر
أصرخ في شحوب الخوف والخطايا
لك الندى ولي العوسج
لك غداً وليس لي غد
لك الانتصارات ولي الهزائم
لك المباهج والأفراح ولي الأحزان
اذهبي بسلام
وإذا ما التفت يوماً
سأفتح لك ذراعي
فأنت دائماً كنت حبيبتي
وأنت دائماً كنت قاتلتي.