أن يتقدّم لاختيار البلد الذي سوف يكتب عنه حلقة بحث في امتحان آخر السنة الدراسيّة، شرط أن لا يتشارك اثنان في موضوع واحد.
تشابكت الأيادي وعلا الصياح ثمّ حلّ الخلاف بالتراضي... على اعتبار أنّ أرض الله واسعة والبلاد كثيرة فوق هذه الكرة الصغيرة العجيبة.
وضعت إصبعي فوق خارطة سورية دون سبب واضح، بينما اختار(حليم) - زميلي في المنافسة والمشاكسة - بلدا مجاورا لسورية، فعلّق الأستاذ بمكر وسخرية غامضة: (سوف أسميكما منذ الآن: سايكس وبيكو أيها الصديقان اللدودان).
لم نكن –أنا وزميلي في الصف- نستوعب آنذاك هذا اللقب الغامض الذي تلقّفه الجميع وأطلقوه علينا دون فهم فقبلناه بشيء من البراءة... إلى أن بدأ رأسانا الصغيران يستوعبان لاحقا دروس التاريخ المؤلمة بعد أن كنّا نتسلّى بالجغرافيا ونتبارى في أسماء العواصم.
عرفنا بعدها من كان سبباً في شجارنا حول مواضيع حلقة (البحث) ووقف وراء كثرة الخطوط المرسومة في هذه المنطقة من العالم، فخلع كل منّا ذاك اللقب الملعون الذي ألبسنا إياه الأستاذ الماكر دون شرح أو تفسير.
أذكر أنّي عدت برزمة سميكة من الكتيبات والصور والخرائط التي أمدّتني بها القنصليّة السوريّة في تونس وانكببت على قراءتها بعد أن ساعدني والدي في كتابة الطلب الرسمي بخطّه المغاربيّ الرشيق وقد ذيّله بعبارة: (أخوكم في العروبة: فلان الفلاني).
انتهيت من إعداد تلك الوظيفة المدرسيّة بمتعة هائلة، ولم تعد سورية في مخيّلتي أشعار نزار قبّاني وحدها التي كنت أتباهى بحفظها والنسج على منوالها أمام المراهقات من فتيات المدرسة.
تعرّفت إلى سورية وعاصمتها من غوطتها إلى قاسيونها دون أن أزورها، حفظت أهمّ معالمها وأشهر مدنها عن ظهر (قلب)، مثل دليل سياحيّ مبتدئ، يخاطب وفود الزائرين عن آثار لم تلمسها أصابعه.
لكنّ اصبعي لامست سورية في ذلك اليوم الدراسي بإشارة صريحة ومبهمة.. وكأنها تشير إلى قدرها.
ساقتنا السنوات ولم نسقها، فوجدتني ذات يوم خريفيّ تحلّق بي الطائرة هبوطا تدريجيّا نحو مطار دمشق، بدأت أشرح وأشير بإصبعي من الشبّاك لمسافر يجلس إلى جانبي و يزور دمشق لأوّل مرّة: (نحن الآن فوق الغوطة التي يشقّها نهر بردى، ذاك هو جبل قاسيون... لست أدري إن كنّا نستطيع رؤية قبّة الجامع الأموي من هنا... إلخ..).
قطع الرجل (ثرثرتي) بامتعاض واضح، مثل سائح ملول وقال: (أرجوك، دعني أكتشفها بنفسي غدا، يبدو أنّك تعرفها جيّدا... إنك تتحدّث مثل من يفسد على الآخر متعة المشاهدة لفيلم يحضره لأوّل مرّة).
وقفت أمام موظّف الجوازات الذي حدّق في جوازي سائلا: (أنت تزور سورية لأوّل مرّة ؟).
- نعم.... (ولمحت مرافقي في الطائرة، يقف خلفي وينظر إليّ مستغربا).
ختم الموظّف جواز سفري وقال تفضّل، كان أسهل إليك أن تمرّ من البوّابة الخاصّة بالعرب وليس الأجانب.
تركت المسافر الذي وعدته بتعريفه على معالم المدينة، اقتنيت سيارة تكسي وأنا أحادث وأجادل السائق واثقا من صحّة معلوماتي ومستعينا بلهجة تعلّمتها من مسلسل (صح النوم).
(صح النوم)، عبارة أقولها لنفسي ولطفلي الصغير كل صباح دمشقي، بعد سنين طويلة، لكنّها قريبة جدّا من تلك اللحظة التي حططت فيها اصبعي على الخارطة السوريّة فوق تلك الكرة الزرقاء.
تذكّرت كل هذا حينما التقيت منذ عامين برفيق المدرسة (حليم) ضمن مهرجان مسرحي في العاصمة الأردنيّة... وحينما كتبت طلبا لاستخراج وثيقة لابني في دمشق مذيّلة بعبارة: (أخوكم في العروبة).... ولكن، بخطّ (نصف مغاربي) هذه المرّة.
hakemmarzoky@yahoo. fr