فالرئيس ساركوزي حول بلاده في أقل من أربع سنوات إلى دولة أخرى ذات توجه استعماري عدواني يستعيد ذكريات الحقبة الاستعمارية السوداء ، بحيث باتت مركزاً لكل أشكال المؤمرات الدولية ، وقاعدة متقدمة للعدوان والتدخل في شؤون الدول الأخرى ، عدا من الصفقات المشبوهة التي تبرم فيها على حساب دماء الشعوب وثرواتها.
فعندما تولى ساركوزي حكم فرنسا تطلع العرب بأمل كبير إلى أن تتمكن ثوابت المصالح المشتركة على ضفتي المتوسط من التغلب على التغير الاستراتيجي الذي أحدثته رئاسته في مواقف وسياسة فرنسا نتيجة العديد من العوامل أهمها : أنه الرئيس الفرنسي الأكثر تشدداً في الدفاع عن أمن الكيان الصهيوني ، ورغبته بالعودة إلى التبعية للولايات المتحدة والتي تجلت من خلال عودة باريس إلى حلف شمال الأطلسي بعد قطيعة طويلة ، ما مهد الأرض إلى عسكرة السياسة الخارجية الفرنسية ، وطموحه بإحياء الدور الاستعماري الفرنسي في الوطن العربي وإفريقيا تحت عناوين ومسميات مختلفة ، عدا عن جذوره اليهودية التي تطرح العديد من التساؤلات وتضع الكثير من إشارات الاستفهام .
بالعودة إلى الوراء قليلاً نجد أن الرئيس الفرنسي السابق شارل ديغول هو من أخرج فرنسا من حلف الناتو واستقل ببلاده عن المحور الأنغلو- أميركي في قيادة الغرب ما أرسى أساساً موضوعياًلشراكة عربية أوروبية على أساس الند للند والمصالح المشتركة والاحترام المتبادل ومنح العرب أملاً في دور أوروبي مستقبلي مستقل عن السياسة الأميركية المنحازة التي تتعامل مع قضايا منطقتنا من زاوية المصالح الصهيونية ووفق رؤية واستراتيجية اللوبي الصهيوني المهيمن علىالسياسة الخارجية الأميركية ، وقد اكتسب هذا الدور الأوروبي أهمية كبيرة عقب انهيار المنظومة الاشتراكية الدولية التي كان يقودها الاتحاد السوفييتي آنذاك ، والذي أفضى إلى هيمنة أميركية على الساحة الدولية .
غير أن هذا الأمل العربي تبخر دفعة واحدة منذ الإطاحة بنظامي زين العابدين بن علي في تونس وحسني مبارك في مصر الصديقين لفرنسا ، وقد بدا جلياً مع الأزمة الليبية الدور الفرنسي الجديد الذي شكل رأس حربة التدخل العسكري الأطلسي في ليبيا للإطاحة بنظام معمر القذافي وكانت باريس من أوائل الدول التي اعترفت بالمجلس الانتقالي الليبي الذي يمثل حركة التمرد المسلحة التي تتخذ من بنغازي مقراً لها ، بالإضافة إلى كونها السباقة في تسليح المحتجين إمعاناً في تعميق الأزمة وعدم السماح لأي مسعى دبلوماسي بحلها .
وفي ذات الوقت شكلت باريس رأس الحربة في تحرك الغرب ضد سورية سواء لجهة فرض عقوبات ضد الشعب السوري وحكومته ، أو لجهة السعي الخائب لاستصدار قرار إدانة بحق سورية داخل مجلس الأمن على خلفية الاضطرابات الأمنية التي شهدتها البلاد في الأشهر الماضية يمهد لعقوبات أممية ، كما بلغت فرنسا أوج تدخلها في الشأن الداخلي السوري بتسلل سفيرها بدمشق من دون إذن مسبق إلى مدينة حماة لينضم إلى السفير الأميركي هناك في محاولة محمومة لتأجيج الوضع وصب الزيت على النار ، في وقت استضافت فيه مؤتمراً لمن تسميهم المعارضة في الخارج حيث كان لافتاً في ذلك المؤتمر الفاشل الحضور المؤثر لبعض الموالين للحركة الصهيونية أمثال هنيغري ليفي وبرناردكوشنيراللذين دافعا عن دولة الاحتلال الإسرائيلي ومشروعها الصهيوني وأمنها واحتلالها وتوسعها الإقليمي والاستيطاني.
هذا السلوك الفرنسي الشائن عكس مرارة سورية عبّر عنها السيد وليد المعلم وزير الخارجية بعبارات بالغة الدلالة حين أكد أن لفرنسا أجندة استعمارية وبالتأكيد فإن ما قاله المعلم كان يعبر عن صدمة وخيبة أمل عميقة عكست إحساساً جريحاً بالخيانة بعد تاريخ طويل من الرهان على موقف أوروبي مستقل يوازن الانحياز الأميركي السافر وغير المشروط لإسرائيل ، لاسيما بعد أن أسقطت أوروبا المصطفة اليوم خلف تطرف ساركوزي الرهان الذي رعته سورية بحرص وعناية خلال خمسة عقود من الزمن .
من جهة ثانية كان التدخل الفرنسي مكملاً للتدخل العسكري الأميركي في ليبيا بعد أن حالت أسباب عملية دون تدخل أميركي مباشر ومن هذه الأسباب الأزمة المالية والاقتصادية التي تعصف بالولايات المتحدة منذ ثلاثة أعوام ومنها أيضاً نشر القوات الأميركية للحد الأقصى الذي يحول دون نشر المزيد منها من دون اللجوء إلى التجنيد الإجباري بعد مضي عشر سنوات على احتلال أفغانستان والحرب الأميركية المستمرة عليها دون حسم عسكري حتى الآن ، ومضي 8 سنوات على احتلال العراق دون تحقيق أي إنجاز فيه .
فالرئيس الأميركي باراك أوباما الذي اضطر لاتخاذ قرار الحرب ضد ليبيا دون مشورة الكونغرس ومصادقته ، فعل ذلك لفترة قصيرة معتمداً على أن يسلم المهمة لفرنسا ساركوزي كي تكملها تحت مظلة الناتو ، وها هي فرنسا تفعل في ليبيا ما تتعفف عن فعله واشنطن بالرغم من تماثل الأدوار بينهما وترابطها.
وكما كان للولايات المتحدة مشروعها الفاشل في الشرق الأوسط(مشروع الشرق الأوسط الجديد) فقد كان مشروع الاتحاد المتوسطي عماد سياسة ساركوزي وهو يشكل نسخة فرنسية عن المشروع الأميركي ، فكلا المشروعين يهدفان إلى دمج إسرائيل في المنطقة ضمن نظام إقليمي أوسع من أي نظام عربي، ومن ضمن هذا التوجه الساركوزي كانت الدعوة الفرنسية الأخيرة لإحياء المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية الثنائية المباشرة وهي نسخة فرنسية أيضاً عن مبادرة أوباما في مستهل عهده ، ولهذا السبب كان مصير النسخة الفرنسية هو ذات الفشل الذي أصاب المبادرة الأميركية الأصلية .
ومن هنا يتضح أن فرنسا ساركوزي تعيش تحولاً ضد حركة التاريخ ، ومن يعاند حركة التاريخ سيخسر في النهاية .