وليس في مرحلتنا هذه حيث تقدمت الأمور بمعدلات خطيرة باتت معها المسألة تستأهل اهتماماً ومتابعة عن كثب لكل من الرئيس الأميركي بوش والرئيس الفرنسي شيراك ومجموع الإدارة البريطانية, ومجلس الأمن, بل ذلك كان منذ قرون وما زال قائماً.
لماذا? وهل يمكن تجاوز حقائق الجغرافيا والتاريخ?
الطريق بين بيروت ودمشق قصير, أقصر من الطريق بين بيروت وصور, أو بيروت وطرابلس, وبالتأكيد فهي أقصر بكثير من المسافة بين دمشق وحمص أو دمشق واللاذقية, ومع ذلك لم تغفر الديمغرافيا, والانتربولوجيا, والجغرافيا للمشتغلين بالهم اللبناني-السوري, ولم توفر لهم أسباب الاستقرار في العلاقات والثبات على نهج له قابلية الاستمرار والراحة في إدارتها.
بيروت عقدة تاريخية ونقطة وصل استراتيجية لموقعها المفتاحي لذلك شكلت على مدى العصور الموقع الأكثر أهمية على الساحل السوري, فما اندثرت امبراطورية في الشرق الأوسط, ولا قامت فيه, ولم تنتصر عالمياً إن هي لم تنتصر في واحد من زوايا مثلث صناعة التاريخ والامبراطورية (بيروت - القدس - بغداد) على ما تجزم الوثائق التاريخية وعلى ما أثبته العديد من المؤرخين والباحثين كأمثال ما خلص إليه الكاتب عبد المجيد عبد الملك, في كتابه (ساحل الشام والصراعات الدولية من 2500 قبل الميلاد, إلى 2001) وما ذهب إليه المؤرخ سهيل زكار في العديد من كتاباته ومؤلفاته, وما أكدته تصريحات بوش وإدارته من أن احتلال العراق واستقراره تحت الاحتلال سيغير وجه العالم.بين دمشق وبيروت صلة وصل, بل حبل سرة, لا تعيش الواحدة بدون الثانية, (والمناكفات جزء من قواعد الحياة وتطورها), وإن عاشت فعينها على تكييف الأخرى بما ينسجم معها ويجعلها قادرة على الحياة, هذا ما فعله ابراهيم باشا, وما سعت إليه الغزوات الفرنجية, وما كرسته ثوابت السياسات الاستعمارية خلال القرنين التاسع عشر والعشرين, وهذا ما تقوله قصة الموارنة في لبنان, وتاريخ نشأتهم, وعلاقة صراعاتهم الكنسية حيث لعبت الرهبانية الحلبية الدور الأكبر بروزاً فيها, ناهيك عن مرحلة النهوض القومي نهايات القرن التاسع عشر والقرن العشرين.
سايكس بيكو اتفاق استعماري عمد عن قصد إلى فصم عرى العلاقات بين بيروت ودمشق والقدس وبغداد وزرع الأشواك والحواجز في طريقها, لأنها الشرط اللازم لإسقاط المنطقة واحتوائها, وفرض الانتداب عليها, ثم الكيان الصهيوني, فتأييد التخلف والوهن, والرهان على احتواء حراكها والسيطرة عليه من أجل احتواء حيوية المنطقة واستثمار نفطها وجغرافيتها وأسواقها.
ثم إن المدينتين الشقيقتين يشهد تاريخهما على الأخوة المتفاعلة والدور المشترك في جبه الغزوات, وفي السعي لبناء الحضارات وتصعيدها, وفي العمل المشترك عن قرب, ولاحقاً عن بعد في تعضيد قضايا الأمة ونصرة حقوقها, فما كان هناك استقلال للبنان لولا الثورات السورية المستمرة, ولا كان هناك تطور لدمشق ومفاهيمها القومية لولا الصحافة والمفكرون اللبنانيون, وهكذا دواليك.
اقتطعت بيروت من الجسم السوري (بلاد الشام) برغم الاعتراضات والنضالات الرافضة, لكنها غدت حقيقة معاشة مع حجم الضغوط والرعاية الخارجية والإخفاقات المتتالية لحركات التحرر الوطنية والقومية العربية, ووقوع الأمة في حالة من التخلف والنسيان, وطغيان القطرية.
شهدت العلاقات مداً وجزراً, وانتهت إلى قطيعة اقتصادية, ومالية, وجمركية, بسبب التنافر بين النظامين, والاقتصادين, والطبيعتين والوظيفتين, حدث ذلك في منتصف القرن الماضي واستمرت القطيعة وكادت تتحول مرات عديدة إلى اشتباك وأزمة, حتى قامت أزمة وطنية كبرى في لبنان استمرت 17 عاماً أكلت الأخضر واليابس ودمرت البشر والحجر وعجز عن وقفها كل من تدخل من مشرق الأرض إلى مغاربها حتى كان الدور السوري الأخوي, والمبادرة الاستراتيجية التي أنتجت خلاصاً للبنان واستقراراً فيه, وطرداً لإسرائيل والنفوذ الخارجي, وانتصاراً عربياً أولاً لقيمته وتاريخه ودروسه.
عاشت بيروت وتطور اقتصادها في مراحل عزها بسبب أحداث وتطورات سورية داخلية (التأميم وهروب رؤوس الأموال والوكالات) وانعكاس لحاجات الصراع مع العدو الصهيوني (إقفال قناة السويس, والثروة النفطية بنتيجة حرب تشرين), وانفجرت أزماتها الداخلية لذات الأسباب عندما انقلبت بعد حرب تشرين واتفاق كامب ديفيد.
مقاصد القول إن بيروت لا يمكنها أن تعيش بدون بيئتها القومية والمباشرة, مهما عملت وبذلت, وأياً كانت الطبقة والقوى السائدة وأوهامها, وارتباطاتها الخارجية ورهاناتها.
الطريق بين بيروت ودمشق برغم قصرها لكنها استمرت كطريق وعرة وقاسية, والعلاقات برغم كونها أخوية بل أكثر إلا أنها ظلت على قاعدة مشقة الأخوة, كما كتب فيها جوزيف أبو خليل كتاباً تحت عنوان (مشقة الأخوة), في حين كتب المؤرخ الكبير كمال الصليبي كتاباً ذا قيمة تاريخية نادرة تحت عنوان (بيت بمنازل كثيرة).
فليس جديداً أن تشهد العلاقات أزمة, وأن تستخدم كل من العاصمتين ما لديها من عناصر ضغط وقوة للتأثير على خيارات الثانية, وأن تكون الواحدة ناكرة لجميل الثانية فيما الثانية تتصرف بردة فعل على ما بدر من الأولى, وهكذا دواليك.
لكن ما هو جديد نوعي, يكمن في البيئة واتجاهات التطور المرتقبة, وعناصرها المؤسسة, والجديد أن دمشق بذلت الكثير من التضحيات, وقدمت الكثير إرضاء لغنج الثانية, وأسهمت في التأسيس لحقبة تاريخية جديدة تتحفز لها بيروت, رغماً عن الجهود الدولية والمحلية والعربية المبذولة لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء, لكنها لن تعود القهقرة.
فالأزمة الحالية ليست أزمة علاقات سورية-لبنانية بحتة, بل هي في عمقها أزمة لبنانية-لبنانية, دفعت سورية ثمنها لأنها لم تتحوط لها باكراً, وهي أزمة لبنانية-أميركية-إسرائيلية-فرنسية, تطوعت دمشق بدوافع التزاماتها القومية والوطنية للوقوف إلى جانب لبنان الوطني المقاوم فكان أن استهدفت بتركيز عال غير مسبوق لجهة تحالف قوتين امبراطوريتين, وما كان لسورية أن تصمد في وجه هذا التحالف وتظل ممشوقة القامة واقفة في طريق الجرافة الدولية, التي نتجت عن ذلك التفاهم بين الأوروبيين والأميركيين بدفع من الإسرائيليين وبوجود قوى محلية لبنانية تراهن على التحالف وتعمل على التفاعل معه ثأراً من سورية وعناداً لأسباب واهية, فتصرفت سورية بما يجب أن تتصرف به قوة عاقلة واعية لموازين القوى ومراهنة على المستقبل وتطوراته وستظفر.
اعتدي على سورية في لبنان, وامتهنت كرامة أبنائها, واستبيحت دماؤهم وحقوقهم عن غير وجه حق وبطريقة منظمة وعن سابق تصميم وتصور واستهداف, وجرت تطاولات حادة على هيبة سورية وثوابتها (من أقرب المقربين ومن الذين استفادوا من الوجود السوري) وحملت الكثير من المسؤوليات التي لا تتحملها عملياً, واعترفت بأخطاء لم تكن السبب فيما آلت إليه التطورات, فكل الأخطاء السورية في لبنان التي جرى التذرع بها هي بمثابة أخطاء تكتيكية بالمقارنة مع ما أنجزته من تحولات استراتيجية وما قدمته من تضحيات جسام, والأخطاء اللبنانية-اللبنانية أكبر وأخطر بكثير من الأخطاء السورية بحق اللبنانيين, أو بعضهم, ولولا البيئة اللبنانية المنتجة للأخطاء لما وقعت أخطاء سورية بهذا الحجم.
ليس كل اللبنانيين ناكرين للجميل, وليس كل الشعب اللبناني تحول إلى العداء لسورية, هذا ما أكدته وقائع الحياة السياسية وتحديداً الانتخابات النيابية حيث أعطى الشعب اللبناني حلفاء سورية الصادقين والمتمسكين بالتحالف معها جهاراً وبرغم العاصفة والاستخدام المكثف للمال والتدخل الدولي, والاستثمار بدم الحريري أكثر من 60% من مجموع الأصوات برغم أن الحملات الإعلامية الظالمة والمستمرة غطت على تلك الحقيقة الثمينة, وبرغم كل ما جرى لم تنجح الحملة الدولية, وأدواتها الداخلية في مواصلة التطاول على سورية ولم تنجح الجهود لقلب لبنان ونقله إلى الضفة المعادية لسورية ليس فقط بسبب حاجة لبنان لسورية وهي حاجة موت أو حياة, بل أيضاً بسبب وجود قوى وقطاعات شعبية لبنانية واسعة ووازنة ما زالت على تحالفها مع سورية وتتطابق مع مواقف سورية الوطنية والقومية.
مناسبة هذا الحديث ليس فقط مشكلة الشاحنات والحدود, والخوف السوري من تحول لبنان خاصرة رخوة ومرتعاً لأجهزة الأمن الإسرائيلية والأميركية ولكل شذاذ الآفاق الذين يستهدفون سورية من كل حدب وصوب, بل لأن البحث جار, ويجب أن يطرح على البساط حول تاريخ وحاضر ومستقبل العلاقات السورية-اللبنانية وآليات انتظامها الجديد على قاعدة ما استجد وما تحقق واتجاهات التطورات المستقبلية, حيث إن المشروع الامبراطوري الأميركي مأزوم ومتداع في العراق وفلسطين وعلى المستويات الإقليمية والدولية.
والحق أن يعاد النظر في العلاقات السورية-اللبنانية وقواعد ارتكازها واستهدافاتها بعد الذي جرى وما هو آت, فلكل مرحلة تاريخية أدوات وآليات وأهداف والمنطقة كما العلاقات السورية-اللبنانية وكما لبنان نفسه يقتحم مرحلة تاريخية جديدة مختلفة لابد من مقاربتها.
* كاتب لبناني