وقاسمها المشترك من وجهة نظر الأهل هو غربة أبنائهم عنهم وصعوبة التفاهم معهم أو التأثير فيهم، وهي من وجهة نظر الأبناء تعالي أهاليهم عليهم في بعض الأحيان واستمرار اتهامهم لهم بعدم قدرتهم على تحمّل المسؤولية ومحاولتهم الحدّ من انطلاقتهم والوقوف بوجه حيويتهم..
المسألة ليست عامة بالتأكيد، ولكن النماذج التي سنمرّ عليها ليست من المريخ بل هي من نسيجنا الاجتماعي وتشكّل نسبة لا بأس بها من هذا النسيج نستعرضها بهدوء ونقلّب أسبابها ونتائجها من خلال الأبناء وأهاليهم في محاولة لفهم هذه الحالة..
(.. ألا يريدون ما يريحنا ويفرحنا؟ إذاً لماذا يتدخلون في كل تفاصيل حياتنا؟ أمّي هي من تختار لي ملابسي وهي من تحدد لي رفاقي ومواعيد لهوي، هي من تحدد نوع الطعام الذي نأكله، ولاحقاً قد تتدخل في عواطفي وفي خياراتي المستقبلية).
ما تقدّم هو موجز مما قاله الشاب (علاء ح) وأضاف: ربما ينسى الأهل في بعض الأحيان الفترة التي عاشوها عندما كانوا في مثل هذا العمر، أو ربما يكون موقفهم منّا حالياً هو ردّة فعل على ما عانوه في تلك الفترة، وفي كلتا الحالتين عليهم أن يعترفوا بالتغييرات الكثيرة التي حدثت سواء في المجتمع أو في التربية وأن جيلنا يختلف عن جيلهم ويجب أن يأخذوا هذا الاختلاف بعين الاعتبار..
وعن الحلول برأيه لردم فجوة الثقة هذه قال: نحن جيل نعرف ماذا نريد، ونعرف كيف نختار أصحابنا وعلى الأهل أن يضعوا ثقتهم كاملة فينا وأن يدعمونا ويساندونا بكلّ ما نفكّر به، فإن كنتُ وأنا في هذا العمر (22 سنة) وأنا على وشك التخرّج من الجامعة لا أعرف مصلحتي فمتى سأعرفها؟
نقلت هذه الصورة إلى والدة علاء السيدة أم بسام فقالت: هذا الجيل (بدو الله) لا تعرف ما الذي يريده أو كيف يفكّر... إنه يسهر حتى الصباح وينام حتى الغروب فهل يريدني أن أصفّق له؟
لا أعرف أسماء رفاقه الذين يحضرهم إلى المنزل أو الذين يسهر معهم، لا يتحمّل أي مسؤولية وأي ملاحظة نوجهها له تتحول إلى مشكلة تعكّر صفو البيت بضعة أيام فيرفض الكلام معنا ويرفض تناول الطعام في البيت..
سألتُ السيدة أم بسام عن الحلّ برأيها فقالت: لا نقلل من شأن هذا الجيل ولا تغيب ثقتنا عن أبنائنا ولكن عندما نقول لهم إننا أكثر خبرة منكم في الحياة يضحكون، وحتى لا أعمم أتحدث هنا عن ابني فهو يعتقد أن الصحّ هو ما يقوله وما يفعله فقط، أحاول أنا وأبوه مناقشته في سلوكه وفي أخطائه ولكنه غالباً ما يتجاهل ما نقوله وإن أبدى بعض الندم فإنه سرعان ما ينسى في اليوم التالي، وعندما يروي له أبوه أي حادثة جرت معه بقصد استنتاج العبرة منها يردّ عليه بالقول: الزمن تغيّر.
حالة أخرى ربما أكثر حدّة في نتائجها من السابقة.. رسبت في البكالوريا للسنة الثانية على التوالي والسبب من وجهة نظرها أبوها!
حنان هي البنت البكر لأسرة تأخّرت كثيراً في الإنجاب، وعندما أشرقت شمس حنان في سماء هذه الأسرة أراد أبوها أن يتحكّم بمجرى الكواكب وإجبارها على الدوران حول حنان، فإن عطشت هو أو أمها يحضر لها الماء، وإن طلبت أي شيء فخلال دقائق يجب أن يُلبّى، ومن يزعجها فالويل له سواء أكان عمّها أو خالها..
وكبرت حنان وأصبح لها أشقاء لكن حنان بقيت على حالها من الدلال، وأكثر من مرّة ذهب أبوها إلى المدرسة لـ (يخانق) المدرسين لأنهم وجهوا ملاحظات لابنته..
رسبت في المرة الأولى فاحتفى بها أبوها وكأنها حصلت على العلامة التامة ورسبت هذه السنة فكان كلّ الطموح ألا تزعل حنان، سألتُ حنان عن هذا الأمر فقالت: كنتُ أتمنى لو عاملوني بقسوة أكبر ربما كنتُ انتبهتُ لوضعي وراعيتُ واجباتي ولكن ماذا ينفع الندم؟
لم يدللوا أخوتي مثلي فنجحوا أكثر منّي وأهلي يتحملون مسؤولية فشلي في الدراسة.. أبوها رفض التعليق على هذا الموضوع أما أمها فامتلكت الشجاعة هذه المرّة وألقت بالمسؤولية على زوجها الذي بالغ في دلال البنت حتى أضاعت مستقبلها..
عدتُ إلى حنان لأسألها إن كانت ستتعامل مع أولادها في المستقبل كما تعامل أهلها معها من دلال زائد فقالت: هناك مثل يقول (الله يرحم من أبكاني) ولو أنهم تعاملوا معي بغير هذه الطريقة لما فشلتُ..
(.. ينام معظم الوقت، وإن تكلمتُ معه يركب على دراجته النارية ويذهب ولا يعود إلا ونحن نيام، لم يتابع دراسته ولدينا أرض زراعية لا يعمل بها وإن نقص مصروفه يوماً تقوم الدنيا وأبوه يلحقه ليرضيه)
أم محمود تتحدث عن ابنها (يحيى) وهي تبكي تقريباً وتتابع: أصبح بطولي مرّتين ولا أعرف كيف أتعامل معه، حتى في الحالات العادية يختلق مشكلة ما من لا شيء ليوتّر الأجواء وليدافع عن فكرته بضرورة السفر خارج القطر لإيجاد نفسه كما يقول فنضطر للقبول بما يقوله لينزع فكرة السفر من رأسه..
أما يحيى فيقول: لم يوفقني الله في المدرسة ولا أحبّ العمل في الزراعة ولا اعرف لماذا يعارض أهلي فكرة سفري، إذاً فليتحملوا نتائج قرارهم وعليهم أن يؤمنوا لي كل ما أطلبه!
سألته: ألا تفكّر بالزواج، وهل سيصرف عليك أهلك بعد الزواج فقال: أي زواج يا أستاذ؟ هل تريدني أن أنجب أطفالاً وأعاملهم كما يعاملني أهلي، لا أفكر بهذا الموضوع على الإطلاق وأهلي حتى اللحظة يعاملونني كطفل فهل يتزوج الأطفال؟
يقولون: (إذا كبر ابنك خاويه) أي تعامل معه وكأنه أخوك، وهذه القناعة موجودة لدى الكثيرين ولا نريد أن نقول من خلال السطور السابقة إن كلّ الأسر السورية هي على تلك الحال، وقد نوّهت في البداية إلى أنها حالات خاصة موجودة (بغض النظر عن نسبة تواجدها) ولها آثارها الاجتماعية السلبية على الأهل والأبناء بآن معاً والبحث عن السبل الكفيلة بردم هذه الفجوة هو المطلوب من الأهل أكثر مما هو مطلوب من الأبناء، وعلى الأهل أن ينزعوا من تفكيرهم فكرة أنهم مضحّون وأنهم الأعلم على الدوام بمصلحة أبنائهم وأن يعترفوا أيضاً بالتغييرات التي طرأت على التفكير وعلى طرق المعيشة ليستطيعوا فهم أبنائهم، وليقدروا على التواصل معهم.. كنّا نقتنع عندما كنّا شباباً بالكثير مما يرويه أهلنا من حكايات (بطولة وتضحية) في سبيلنا، ولمسنا على أرض الواقع معاناتهم مع الحياة وقسوتها من أجل تنشئتنا (كانت ظروف المعيشة أصعب وكان الحدّ الأدنى للأسرة 5 أبناء كحدّ وسطي) ومع هذا كان إصرار أهلنا على متابعة تعليمنا وتحصيننا بالقيم الاجتماعية السائدة، لكن الآن اختلفت الأمور بعض الشيء ولم تعد الأسرة هي المؤثر الوحيد على شخصية الأبناء وتنشئتهم، ووسائل التأثير الحديثة التي استقدمتها الأسرة هي التي أضعفت دور هذه الأسرة وبالتالي وبدل أن نلوم أبناءنا علينا إعادة دراسة وجود مثل هذه الأدوات الحديثة في بيوتنا وكيفية ضبط التعامل معها بالشكل الذي لا يلغي دورنا كأسرة في عملية التأثير..
مسألة أخرى يجب مراعاتها وهي أن حاجات شباب اليوم مختلفة كلياً عن حاجات شباب الأمس، أو لنقل إن مضمون هذه الحاجات قد تغيّر فعلياً من الأمور المادية الملموسة إلى الحاجات المعرفية على مبدأ المثل الصيني الذي يقول (بدل أن تعطي الجائع سمكة علّمه كيف يصطاد).