تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


دور الفلسفة في تقوية النزعة الإنسانية

ملحق ثقافي
2018/11/13
حاتم حميد محسن

في عام 1953، حينما كان عمره 24 عاماً كتب هابرماس مقالاً صحفياً أوضح فيه الكثير عن ذاته.ماذا كان يقصد مارتن هايدغر “بالحقيقة الباطنية والعظمة” للاشتراكية القومية التي أشار إليها في كتابه (مدخل للميتافيزيقا) عام 1935؟ كيف سمح هايدغر بإعادة نشر هذه المحاضرات دون مراجعة أو تعليق،

خاصة مع ادّعائه العضوية في الحزب النازي قبل أن تتخذ الحرب منحى خطيراً؟ تلك كانت لحظة هامة وحاسمة في التطور الفكري والأخلاقي لهابرماس.‏‏

ولد هابرماس عام 1929 وكان من جيل مفكري ما بعد الحرب، وهو إلى جانب الروائي غونتر غراس والسوسيولوجيين رالف داريندورف ونيكولاس لاهمان جميعهم كانوا من الشباب المدافعين عن هتلر. في سن الخامسة عشرة كان هابرماس مثل معظم معاصريه عضواً في منظمة شباب هتلر النازية. كان في سن أصغر من أن يُسمح له بالقتال ودون السن الذي يجيز إعفاءه من الحرب. هو وصف أباه البرجوازي كمدير لإحدى المدارس المحلية وفي أثناء الحرب عمل في الجيش الألماني كمناصر متحمس للنازية، واعترف أنه كشاب آمن بتلك المواقف. غير أن قناعات هابرماس اهتزت بعد محاكمات نورمبيرغ وتوثيق معسكرات الاعتقال النازية، هنا قال “كنا نعيش في نظام سياسي إجرامي”، وعمل منذ تلك اللحظة لتأسيس نظام يمنع إعادة ظهور ذلك السلوك السياسي الإجرامي. هايدغر رفض الرد على هابرمس. ذلك الصمت يوضح لماذا هو أصبح فيما بعد غير مقتنع بالنظام الفكري للفيلسوف، وبدلاً من ذلك التحق بجماعة من المفكرين الألمان من الماركسيين الجدد عُرفت بمدرسة فرانكفورت. كان كل من ماكس هوركمير وثيودور أدورنو رائدين في معهد البحوث الاجتماعية ينظّران فلسفياً في مخلفات ألمانيا لمرحلة ما بعد الحرب بعد منفاهما في الولايات المتحدة. كانت مهمتهما المفروضة ذاتياً وقف ما أسماه هوركمير “دراما” ألمانيا الغربية بعد الحرب.‏‏

في عام 1955 اصبح هابرماس مساعداً لأدورنو حيث تعلّم منه واجباً أخلاقياً جديداً سيرسم ملامح بقية حياته الفكرية. كتب أدورنو أن هتلر فرض مبادئ أخلاقية جديدة على البشرية في ظروفها من اللاّحرية: لتنظّم أفكارها وأفعالها كي لا تكرر Auschwitz (معسكر الاعتقال النازي في بولندا) مرة أخرى.‏‏

ولكن بالنسبة إلى الجيل الأول من مدرسة فرانكفورت، كانت هناك مشكلة في قبول ذلك الواجب. في ظل الرأسمالية الصناعية المتقدمة، كانت الإنسانية ملتصقة تحت ظل ذلك الاسم الألماني المركب المخيف أو “النظام الكلي للوهم”. بكلمة أخرى، كان يُعتقد أننا مسحورون بمنتجاتنا الاستهلاكية المعمرة، أصبحنا سطحيين بفعل ثقافة التصنيع، منعتنا من استعمال الديمقراطية لتغيير النظام الممل لأنها ثقافة تلوثت بالنقود. في عام 1979 في مقابلة معه قال: “أنا لا أقبل المبدأ الأساسي للنظرية النقدية، المبدأ بأن العقل الذرائعي Instrumental reason (1) اكتسب مثل هذه الهيمنة لدرجة أن لا وجود هناك حقاً من طريقة للخروج من النظام الكلي للوهم، الذي يُنجز به الفهم فقط بومضات مفاجئة من الأفراد المنعزلين مثل أدورنو.‏‏

خلال مئات آلاف الكلمات فصّل ما يمكن اعتباره استجابة رافضة ليأس أدورنو، كفلسفة نخبوية. هذا بلغ ذروته في عمله العظيم عام 1981، (نظرية الفعل التواصلي) التي تنبّأت بـ “جماعة ذات اتصالات غير محدودة” فيها يتعلم المشاركون في الجدال من الآخرين ومن أنفسهم ويستجوبون عقائد أُخذت كمسلمات. اعتقد هابرماس أن حياة الإنسان الاجتماعية تعتمد على قدرتنا لنكون أكثر أو أقل تواصلاً مع الآخرين” نحن نتواصل، إذاً مجتمعنا موجود”.‏‏

نيتشه أطلق على كانط العنكبوت الكارثي الذي ينسج شبكة فلسفية جنونية. هابرماس له نفس الميول العنكبوتية احتضن في شبكته نظرية سياسية وقانونية وأخلاقية واجتماعية، وهو أيضاً يميل ليحمل في كتاباته تقنيات فنية عالية. بالنسبة إلى الأتباع، يرون أن شبكته عملت على تقوية البشرية ومنعتها من الانزلاق نحو البربرية. وبهذا يمكن أن نرى ليس فقط فلسفة هابرماس وإنما أيضاً تدخلاته المستمرة في الحياة العامة الألمانية – ماركسيته وما تنبأت به لألمانيا الغربية الديمقراطية، هجومه على الطلاب المحتجين مثل Rudi Dutschke كـ (يسار فاشي) في أواخر الستينات، ودوره بما سمي بخلاف المؤرخين Historikerstreit (2) في أواخر الثمانينات – كجزء من حركة العنكبوت الفلسفية.‏‏

هابرمس وُلد ومعه تشوّه في أسفل الفم، وبالرغم من عدة عمليات أجراها في شبابه، إلا أنه أمضى بقية حياته يتحدث بصوت لا يستطيع التحكم بانسيابيته صعوداً ونزولاً. كان يتجنب الظهور أمام الكاميرات، وحينما سُئل عن سبب ذلك قال “أحمي وقتي وراحتي لأجل العمل المهني” وأضاف “هناك أسباب أخرى ذات طبيعة شخصية”. ذلك جعله حساساً لأي شكل من الاستبعاد، وكما كتب، ذلك دفعه للاعتراف بأن هنالك شيئاً ما سيكون مركزياً لفلسفته الناضجة، يعني به “الوسيط في الاتصالات اللغوية الذي بدونه سيكون وجود الفرد مستحيلاً”.‏‏

في عام 2005 كماركسي متمرد هذه المرة قابل الكاردينال جوزيف رازنكر الذي سيصبح بابا المستقبل (البابا السادس عشر). كان اجتماعاً بين شخصين متشابهين ذهنياً كون كلاهما كافح لمعرفة كيف يمكن للمجتمعات المتعددة ثقافياً أن تبقى متماسكة بدون مفهوم شمولي للخير (الفكرة التي هيمنت ليس فقط على هابرماس وإنما على نظيره الأمريكي الفيلسوف جون رولس). في هذا الشأن كتب هابرماس، إن الدين كان ضرورياً: “بين المجتمعات الحديثة فقط أولئك القادرون على أن يجلبوا للمجال العلماني المحتويات الضرورية لقيمهم الدينية التي تشير إلى ما وراء عالم الإنسان سوف أيضاً يكونون قادرين على إنقاذ جوهر الإنسان”. هو بذل جهداً فكرياً شاقاً حول أحلامه بأوروبا عابرة في أعقاب التصويت على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وبعد الاستياء من هيمنة ألمانيا على الاتحاد. هو أيضاً كان عليه القبول بآراء زميله الألماني ولفغانغ ستريك في أن الاتحاد الأوروبي كان بعيداً عن حماية مواطنيه من سيئات هذا العالم حين أزيلت القيود فأصبحوا عرضة لرأسمالية منفلتة.‏‏

لم يكن هابرماس مدافعاً مقتنعاً بالوضع الراهن. في مقابلة مع دي زيت Die Zeit ، جادل بأن سيادة ألمانيا كانت تهديداً لمستقبل الاتحاد الأوروبي: “كيف سيشعر المواطن الإسباني أو البرتغالي أو اليوناني عندما يفقد وظيفته كنتيجة لسياسة خفض الإنفاق التي يقررها المجلس الأوروبي؟ هابرماس اعترف بأن تجاوز الحدود يعني للمواطن العادي فقدان السيطرة السياسية، مع أنه جادل أيضاً أن فكرة التأكيد على السيطرة القومية في سوق العولمة كان وهماً. ما هو الحل لديه؟ “الطريقة الوحيدة لإحلال الديمقراطية في أوروبا هي عبر تعميق التعاون الأوروبي”.‏‏

حالياً وهو في سنته الـ التاسعة والثمانين لازال هابرماس مجدداً وناقداً مؤثراً في طروحاته، هو يبقى سواء كان جيداً، وسيئاً، شيئاً ما نادراً في بريطانيا كمفكر عام محترم، يسعى لمنع الإنسانية من إعادة تكرار الرعب وكوارث القرن العشرين. في عام 1975 ترك هابرماس وظيفته كمساعد مدير معهد ماكس بلانك للبحوث بعد خلاف مع أحد الموظفين. أحد أصدقائه المقربين وهو الناقد راينهارد بومغارت اتّهمه بالدفاع عن الجناح العسكري للحزب النازي (SS). وعندما اشتبك الرجلان بعد سنة في ميونخ وبعد تبادل الكلمات الودية انسحب كل منهما إلى مكان آخر، إلى صمتهما غير التواصلي. ربما من الصعب للناس الذين يشعرون بالكراهية والاستياء أن يدركوا في هذا العالم المواقف المثالية التي اتخذها هابرماس لأكثر من ستين سنة.‏‏

..............‏‏

الهوامش‏‏

(1) حسب ماكس هوكمر وثيودور ورنو، يشير العقل الأداتي إلى التحول الاجتماعي والسياسي في الأفضلية من الغايات إلى الوسائل، من الاهتمام بالمعاني الكبيرة والأغراض الكامنة خلف الأهداف إلى التركيز فقط على الفاعلية والكفاءة التي تُنجز بها تلك الأهداف. العقل انهار إلى اللاعقلانية من خلال تأكيده على الاهتمامات الأداتية. العقل الأداتي يهتم فقط في تقرير وسائل للغايات بدلاً من التفكير في الغايات ذاتها. وبالمقارنة مع مفهوم ماكس ويبر للعقلانية، فإن العقل الأداتي يشير ليس فقط إلى صعود التفكير البيروقراطي وإنما يشير أيضاً إلى النزعة الكبيرة في الفلسفة لتفضيل الموضوعي على حساب الذاتي. الآن وكما يجادل هوكمر وأدورنو في ديالكتيكية التنوير (الترجمة الإنجليزية 1972) أن الذاتي يُعامل كما لو كان تجسيداً مطلقاً وخالصاً بدون أي محتوى فكري، بينما الموضوعي يُعامل كمحتوى فكري خالص. هذه الطريقة في التفكير يرى المفكران هوكمر وأدورنو أنها تخفي حقيقة أن ما نعتقده كسبب هو دائماً نتاج المساومات بين العقلاني وغير العقلاني، بين الموضوعي والذاتي، بين ما يمكن إثباته تجريبياً وذلك الذي لا يمكن. الموضوعي جُعل مساوياً للأبدي الكوني الثابت دون تغيير.‏‏

(2) نزاع المؤرخين كان عبارة عن إشكالات سياسية وفكرية في أواخر الثمانينات من القرن الماضي في ألمانيا الغربية حول أفضل طريقة لتذكّر ألمانيا النازية. هذا الخلاف بين المؤرخين امتد من عام 1986 إلى 1989 محرّضاً جناح اليمين ضد مفكري اليسار.‏‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية