تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


تجوال في زمن الشعر والحنين

ملحق ثقافي
2018/11/13
نور طلال نصرة

عندما أجوع، أقرأ الشعر. وعندما أشتاق، أنبّش في الصور القديمة، أجمع شتات أحبتي وذكريات السنين، أرى دمعة في صورة حزن، وأستشف فرحة في نظرة سعادة.

وعلى مدى سنين مضت أدمنت هذا الأمر، وبتُّ أحتفظ بتلك الصور في سفري وتجوالي، صور والدي عندما كان شاباً وصور إخوتي في طفولتهم، بالإضافة إلى زجاجات العطر التي كنت أبدّلها كل شهر وأتنقّل بينها كمسافرة بين لحظة وأخرى، فلكل لحظة عبقها الخاص الذي أحمله معي أينما ذهبت، أحياناً «كوكو شانيل» وأحياناً «باريس هيلتون». أريد أن يتوقف هذا الزمن، أقصد ذاك الزمن الجميل، لا تستحضرني سوى رائحة شواء الكستناء على موقد الحطب وصوت الريح الشرقية التي ما أزال أسمعها كلّما وضعت شالي وخرجت لأمشي في المدن الغريبة.‏‏

في التسعينات عندما كنت طفلة وكنت أعيش خارج سورية، كنت أنتظر العيد، ليس من أجل الثياب الجديدة أو من أجل رحلة الملاهي والألعاب، بل كنت أنتظر بطاقات المعايدة التي كانت تصلنا من أرض الوطن، ما زلت أذكر تلك البطاقات الجميلة المزخرفة بأجمل الزهور، أو تلك التي كانت تتصدرها صور الحمام في الجامع الأموي أو صوراً لبعض المناطق الأثرية في تدمر أو في عمريت، كانت تسحرني للغاية وتأخذني في رحابها إلى هناك، حيث الحلم الجميل الذي انتظرته لسنوات، «وطني» الذي أراه الآن يتفتت أمامي بقسوة لم أعد أحتملها. بتّ اليوم أصّر على حمل تلك البطاقات الجميلة أينما رحلت، أحمل صوراً لآثار تدمر وأنكر في داخلي أنّها استبيحت في لحظة ما، أحاول أن أنتزع من ذاكرتي صورة «خالد الأسعد» مذبوحاً على إحدى الأوابد الأثرية. كنت أخالف عادات الأطفال وأستيقظ باكراً لأستمتع بالصوت الملائكي «فيروز» المنبعث من أشرطة الكاسيت التي كانت ضمن الأشياء الأكثر أهمية لدى والدي في سفره. فيروز من جعلت من «دمشق» قطعة سماوية فائقة الجمال تتلهف لها قلوب الملايين، استفردت بكل هذا النقاء وسلبتنا حتى قدرتنا على الفرح بعدها، حتى شادي الذي اختفى على حدود الوادي لم تخبرنا ماذا حل به. كان شادي يزورني كل يوم في المنام، يلعب معي، يقبّلني، يمازحني ويضع كرات الثلج في ظهري، ويخبرني أن في قريتي أكواماً من الثلج وأنه ينتظرني هناك. أنهض من نومي وأنا تواقة لرؤية ذاك الوادي الأبيض الذي يختفي وراءه شادي. عدت إلى وطني، وبحثت عن شادي في كل الكهوف والمغاور وبين القلاع الصخرية حتى وصلت إلى ذلك الوادي وندهت بأعلى صوتي: أين أنت يا شادي؟ لم يجبني أحد، لكن ثمة أصوات وصيحات تعالت من وراء الوادي، حرب ورصاص، واختفى صوت فيروز.‏‏

إن أصوات الحرب لها إيقاع يشبه قرع الطبول عندما تجتاح ذاكرتك وحوش البريّة، فيما أنت تحرس مواسم العنب لتصنع نبيذاً يدفئ قلوب الجنود في غياب حبيباتهم، لا تملك سوى عصا نحيلة تهش بها تلك الكوابيس عن أنفك، وذلك الصوت الذي يوقظك كلما حاولت اجترار الطمأنينة. إن كنت لا تملك سبباً للوجود ولا رغبة لك في الحياة، فلا تُغامر بقلبك وتضعه في زورق ورقي ليخبرك عن طريق النجاة، قد يقرأ العنوان المدوّن في ساريته شخص أميّ في الحب. متّن ذلك الخيط الذي يصلك به، كما كنت تفعل عندما تطلق العنان لطائرتك الورقية، كنت تستخدم خيط حرير لا تقطعه ريح فجائية في غير موعدها، وحده الحب يبقى يحتفظ بجماله وإن أتى في غير موعده. قد تركض كثيراً خلف تلك الطائرة حتى تصل إلى نهاية جرفٍ صخريّ، تركض وتركض لتطارد وجه حبيبتك الذي لاح لك خلف غيمة صيفية، توّد لو تعلّق طائرتك بتلك الغيمة لتلقي بثقلك على خيط الحرير، فيسحبك نحو أفكارك الملونة كورق الطائرة. هذا الخيط الحريريّ كان يحتاج لخرم إبرة كبيرة، كانت تستخدمها جدتي عادة لترقيع أغطيتنا الشتوية المحشوة بالصوف، في كل عام كانت تزيد من طول اللحاف بضع سنتيميترات ليلائم نموّنا، حتى توقفت عندما لم يكفها خيط الحرير في إكمال عملها، كان الخيط المفقود معلّقاً على الغيمة الراحلة بين فصلين وكنت أنت تركض بقدميك الحافيتين اللتين بقيتا تبردان شتاءً كاملاً لقصر لحافك.‏‏

إن كنت ترغب بالتعرف على أسباب الحياة، فاكشط بيديك الأعشاب النابتة بين صخرتين، لترى كيف ينبت الحب سريعاً في أقل الأماكن حميمية، كيف ينتظر مطر المواسم ليتشرب سبب البقاء، لا يملّ الانتظار ولا يضجر من العابرين ولا يتحسّر على نفسه من قُبل العشّاق، كل ما يرجوه ألا يدوسه أحمق يظنّ أن ليس للعشب قلب يتألم.‏‏

كانت لدي متعة خاصة بمشاهدة البرامج السياسية، وكان الأمر مخالفاً لجميع الأطفال في عمري، بالإضافة إلى برامج عدّة ثقافية وترفيهية وأفلام الكرتون الخاصة بالأطفال كبرنامج «المناهل»، لم تكن أفلام الكرتون تلك مجرد شخصيات وهمية، بل كانت تحمل في طيّاتها قصصاً إنسانية وأفكاراً جمالية، حتى القصص العالمية التي كان يتم تحويلها إلى أفلام كرتون مخصصة للأطفال كـ»البؤساء»، كانت قصصاً من لحم ودم، تطرح بعداً إنسانياً سامياً، الملفت في كل هذا هو الرسم الخارجي الجميل للشخصيات الكرتونية، كانوا بديعي الصّنعة، فتشعر وأنت تشاهد هذه الشخصيات الكرتونية أنها تشبهك، تفرح مثلك، تحزن وتبكي، وتعيش معك تفاصيل حياتك. نشأ جيل بأكمله على مشاعر الحنان والجمال والسّلام. ثم أتت بعد ذلك مرحلة خطيرة وتغيّر الاتجاه، وبدأت تنتشر محطات تلفزة خاصة بالأطفال تبث البرامج على مدار الساعة. ومع وجود هكذا محطات أصبح الطفل مشتتاً ويفاضل بين التزاماته المدرسية وبين وقت ترفيهي متاح له على مدار اليوم. والملفت أنّ هذه الشخصيات الكرتونية، لم تعُد تحمل أي شكل يمُتّ للإنسان البشري بصلة ابتداءً من «البوكيمون وليس انتهاءً بأبطال الديجيتال». هذه المسلسلات والبرامج خالية تماماً من أي مشاعر، فهي لا تمنح الطفل لا فكراً ولا أي توجه إنساني ولا حتى مبادئ أخلاقية، بل على العكس تجعله يظن أن العالم قائم على هذه الأشكال الغريبة الآتية من زمن وكوكب آخر فلا ينظر إلى طفل آخر بجانبه على أنه كائن بشري، عدا مظاهر العنف والقوة التي تملأ هذه البرامج ليتحوّل الطفل إلى أداة لتجسيد هذه الأفكار.‏‏

انتقلنا من جيل إلى آخر ومن عالم إلى آخر. كانت أواخر التسعينات مرحلة مزدحمة بهذه البرامج، كانت تؤسس لما نشهده اليوم من ابتعاد للطفولة عن مسارها وتوجهها الصحيح. بات واضحاً أن الهدف هو إبعاد جيل بأكمله عن الرقيّ الفكريّ، عدا عن انتشار المحطات والبرامج التي كان لها أثر مؤسف في نشر ثقافة متطرفة وغير ملائمة في هذه المراحل العمرية للطفولة. انتشار الميديا ودخولها بكثافة لعالم الطفل جعلت منه أسيراً للصورة المزيفة ولموسيقى صاخبة لا تحمل سوى صرخات القتال ودويّ الأسلحة. كل هذا جعل من الطفل أداة معلبة وجاهزة للمعركة القادمة، باتت صور أطفالنا تملأ وسائل التلفزة ووسائل التواصل الاجتماعي، معسكرات لتدريبهم على حمل السلاح، يرتدون لباساً يعود إلى ما قبل آلاف الأعوام، يحملون أيديولوجيا العنف في عقولهم ونفوسهم. لم يعد منظر الفتاة بائعة الكبريت يهزّ مشاعرهم وقد لا يعلمون بأمرها، لكنني في هذا الشتاء أتذكّر طفولتي وأتذكرها، تلك الطفلة القادمة من عالم الحكايات، تبكيني، أنا من جيل العاطفة، جيل» ساندي بل، كوزيت، ريمي وجودي آبوت» التي كانت تنتظر صاحب الظل الطويل.‏‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية