تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


الحاجة الجميلة منفعة مادية ومعنوية

ملحق ثقافي
2018/11/13
د. محمود شاهين

ككل الحاجات الأخرى في حياة الإنسان، بدأ مكان سكنه بسيطاً، محصور الأهداف بجملة من المنافع المباشرة، كالحماية من الحيوان، ثم من بني جلدته، وعوامل الجو المختلفة،

والتكيف مع تبدلات المناخ، وتجميع أسباب عيشه فيه، وتخزينها من فصل إلى فصل، وحمايتها من السرقة، وتوفير جو من الاستقرار والأمان له ولأفراد أسرته، ولحيواناته المدجنة التي تسعفه في ممارسة حياته اليوميّة، وتساهم في تأمين الكثير من متطلبات استمراره في الحياة، وغير ذلك من المهام والوظائف التي قدمها البيت للإنسان، ولا زال يقدمها حتى اليوم.‏‏

متع بصريّة‏‏

مع تطور الحياة، وازدياد وتشعب حاجات الإنسان، أخذ البيت جلَّ اهتمام الإنسان، فأخذ يُحسن فيه، موسعاً ومطوراً وموجداً لكل أسباب الراحة في مرافقه. في البداية، أوجد الإنسان الكهف أو المغارة مأوىً له، ثم أوجد البيت، فالدار الكبيرة وملحقاتها، ثم كان القصر، والقرية، والمدينة بشوارعها وأسواقها ومعابدها وحماماتها وخاناتها وغير ذلك من المباني الخدمية المختلفة، وقد رافق هذا التطور الذي شمل العمارة بمظاهرها المختلفة، تطور مماثل في الفن والأدب والحِرف والصناعات اليدويّة وغيرها من الأشياء التي استفادت منها العمارة في تحسين مظهرها ووظائفها، وهي بالمقابل أفادتها بأكثر من وجه ومجال.‏‏

العمارة إذاً، بدأت في حدود الحاجة والمفيد والضروري لحياة الإنسان، غير أنها ما لبثت أن حُسّنت بإضافة الجمال والرونق والذوق والابتكار إليها، بهدف توفير المتع البصريّة للإنسان التي تؤدي بدورها إلى السعادة، والراحة والهدوء والانطلاق، خاصة وأن الإنسان يمضي جل وقته في مسكنه. وبالتدريج، تابعت العمارة تطورها لتصبح في بعض الأحقاب التاريخية عملاً فنياً جميلاً ومدهشاً، فيه من الإعجاز والفخامة والهيبة والجمال والفن أكثر مما فيه من المنفعة الماديّة المباشرة.‏‏

عكس هذه الصورة، عادت لتظهر في وقتنا الحالي، خصوصاً في بلادنا العربية، فقد بدأنا نرى عمارة دون جمال، وبيت دون فن، وشارع دون تنظيم، فالمهم أن تؤدي العمارة غايتها النفعيّة الماديّة، والشارع ليسهل عملية الوصول إلى هذا البيت، أو تلك البناية ليس إلا، ضاربين بالتنظيم والجمال والرشاقة الخارجية للعمارة عرض الحائط، فالمهم تحقيق الغايات المفيدة حتى ولو على حساب الصفة الجماليّة التي لا تقل أهمية للإنسان عن الغاية الأخرى، وبالقليل من الإمكانيات يمكن الجمع الموفق والمنسجم بين الغايتين أو الوظيفتين، ذلك أنه من الخطأ الفادح، أن نخطط لتأمين سكن مفيد وصحي، ولا نهدف لأن يكون هذا السكن مريحاً وجميلاً في آنٍ واحد.‏‏

انسجام وتوافق‏‏

والمنشأة المعماريّة في التنظيم العمراني كالنغمة في السيمفونية، أو اللون في اللوحة، أو الكلمة في النص، يجب أن تُشكّل مع بيئتها ومحيطها وضعاً منسجماً، بحيث تبدو وكأنها جزء لا يتجزأ من هذه البيئة وهذا المحيط، رغم ما قد تنفرد به من خصائص فنيّة وتعبيريّة ابتكاريّة، تأكدت وبرزت مع تطور المجتمع وتوزيع العمل، وتالياً تطور وتشعب قدرات الإنسان الشخصيّة التي أخذت طريقها إلى جملة الفعاليات والأنشطة الهادفة إلى استيعاب الواقع جمالياً، عبر مجال خاص هو الفن الذي انضوت تحته العمارة والفن التشكيلي والتطبيقي والحرف والصناعات والمشغولات اليدويّة. وقد ارتبط بعضها بالعمارة، ونما وتطور بين أحضانها، كالنحت والرسم والزخرفة والقيشاني والفسيفساء والزجاج المعشق والنجارة والسباكة والنسيج..إلخ. لكن مع الأسف، ألغت حضارة الإسمنت الباردة، وميكنة المشغولات اليدويّة، وحتى بعض أنواع الفنون التعبيريّة، القسم الأعظم من هذه الحرف والمهن والصناعات اليدويّة الأصلية، التي ارتبطت بالعمارة، وعاشت عليها أحقاباً زمنيّة طويلة.‏‏

الارتباط بالبيئة‏‏

من جانب آخر، تتعدد خامات وأشكال وهيئات ووظائف الفنون والحرف الشعبيّة من بلد إلى آخر، ومن زمن إلى آخر أيضاً، لأن جملة المسببات الموضوعيّة والطبيعيّة والإنسانيّة، تلعب دوراً رئيساً في تحديد شكل وخامات ووظيفة هذه الفنون والحرف والصناعات التقليديّة الشعبيّة مكانياً وزمانياً، ومرد ذلك التداخل الجميل والحميمي القائم بين حاجة الإنسان الماديّة وحاجته الروحيّة.‏‏

وكما هو الأمر بالنسبة إلى العمارة التي جاءت بمواد وخامات بيئتها، وبالشكل أو التصميم الذي يتوافق وينسجم مع هذه المواد والخامات، وفي نفس الوقت، مع أفكار ومعتقدات ساكنها ومتطلبات مناخ منطقته، كذلك الأمر بالنسبة إلى الحرف والمشغولات اليدويّة، التي جاءت هي الأخرى متوافقة مع البيئة: مناخاً ومواد ومعتقدات، ورداً عليها.‏‏

فحرف ومشغولات المناطق الحارة، جاءت أسيرة حاجة الإنسان إلى الرطوبة والظل، عكس ذلك تراه في صناعات المناطق الباردة التي تنشد الدفء للإنسان. وهكذا نجد أن الإنسان، وبشكل عفوي وتلقائي، نفذ عمارته وحرفه ومشغولاته اليدويّة، بالمواد والخامات المتوفرة في بيئته، ليرد من خلالها، على هذه البيئة، وليجعلها متوافقة ومنسجمة معها ومع حاجاته الماديّة والروحيّة، وهي حاجات تختلف من مجتمع إلى آخر (وحتى من إنسان لآخر داخل هذا المجتمع) ومن بيئة إلى أخرى أيضاً.‏‏

الحرفة والفن‏‏

على هذا الأساس، لا تزال ماهية الفن تُشكل حالة من السجال بين الفنانين وعلماء الفن والجمال والحرفيين، ومن محاور هذا السجال الرئيسة، علاقة الفن بالحرفة التي يرى غالبية الباحثين ضرورتها له، إذ بدونها لا تستقيم لغته التعبيريّة، ولا تتمكن من إيصال مضامينه إلى الآخرين بوضوح وقوة، وهي ضروريّة له، من أجل أن يستمر ويبقى جيلاً بعد جيل.‏‏

والحقيقة المؤكدة، أن الحرفة ضروريّة للفن، والعكس صحيح أيضاً، فبالفن تتصعد قيمة الحرفة الجماليّة والتعبيريّة، ما يغني حضورها في عين المتلقي وأحاسيسه، وتالياً بالفن تتكرس أهميتها وأصالتها وتفردها، وهذا ما لاحظته منشأة (الباو هاوس) في ألمانيا التي نادت بالجمع بين الفنون التشكيليّة والعمارة والحِرف، والتخلي عن التعالي والكبرياء التي يُصاب بها في العادة، الفنانون التشكيليون والمشتغلون على اللغات الإبداعيّة المختلفة.‏‏

الفن يحتاج الحرفة ليتجسد في مادة صحيحة، سليمة، مقاومة، وسرمديّة، على هذا الأساس، يجب أن يكون المشتغل في حقول الفنون كافة، فناناً وحرفياً في آنٍ معاً. فنان يبدع ويبتكر، وحرفي يترجم هذا الإبداع، إلى مادة ملموسة في الواقع، صحيحة، وسليمة، وجميلة، مثيرة، قادرة على جذب الناس إليها، ومنحهم متع الفن العظيم، القادرة على إرضاء العقل والإحساس في آنٍ معاً.‏‏

على هذا الأساس، يجب قيام حالة من التماهي الإيجابي بين «الفنان» و«الحرفي» و«الإبداع» و«التقنية» و«الابتكار» و«الخبرة العمليّة» المتراكمة بفعل المعالجة الدائمة، لخامات ومواد ومواضيع محددة، يصعدها ويطورها باستمرار (الحرفي) المسكون بروح (الفنان). أما الحرفي الصانع، فعادة ما يقع أسير النمطيّة والتكرار.‏‏

من جانب آخر، ارتبطت الفنون الحرفيّة ولا زالت، بمواد وخامات محددة، شكّلت القاعدة الأساسيّة لقيامها واستمرارها، منها: الأشجار، النباتات، الحجر، الزجاج، الفخار، الخزف، العاج، المعادن، قرون الحيوانات وجلودها، النسيج، الألوان.. وغيرها، وهذه الفنون الحرفيّة، يتداولها الناس اليوم، بكثير من الحرص والاعتزاز، لأنها أصبحت جزءاً حميمياً من حياتهم وبيوتهم وتاريخهم الشخصي، كذلك المتاحف وصالات العرض العالميّة التي تتسابق للفوز بالأصيل والنادر والمتقن منها، لما لها من قيمة فنيّة وجماليّة وحضاريّة وتاريخيّة وماديّة، إضافة إلى ما تحمل من رموز وقيم ودلالات روحيّة وأسطوريّة رفيعة، تشير إلى فرادة وخصوصية الشعوب المنتجة لها.‏‏

والفنون الحرفيّة في العادة، تقوم على الجهد العضلي لصانعها وأسرته التي تتناقلها جيلاً بعد جيل، لذلك فهي عمل يُنجزه الإنسان من ألفه إلى يائه بيديه، وفكره، وخياله، وموهبته، وخبراته المتراكمة، ومن هذه الخصائص والمقومات التي تتفرد بها الحِرف والمشغولات الشعبيّة اليدويّة، تأتي قيمتها الفنيّة المضافة لقيمتها الاستخداميّة، التي كانت هي أساس وجودها في البداية.‏‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية