يحمل أيضاً شؤون البلاد، فإن متطلباته، أقصد الرأس، لايحتمل التأجيل أو التأخير، ولذا فقد لبى الحلاق الرئاسي الخاص، الأوامر وامتطى الطائرة ميمماً شطر إقامة الرئيس كلينتون ليزين الرأس الذي يدير البلاد.
هذا الخبر الذي نشرته يومها الصحف تذكرته وأنا أرى زوجته في التلفزيون وهي وزير خارجية، وشعرها مصفف وكأنها خارجة لتوها من عند الكوافير.
ولعل الرئيس الأسبق كلينتون صار الآن لديه من الوقت ما يتسع للذهاب بنفسه إلى صالون الحلاق خارج بروتوكولات الدبلوماسية التي يضيق بها الحلاقون.
فالحلاق أيها السادة، وكما عرف عنه، هو رجل يحب أن يطلق لنفسه العنان في القصص والحكايات، وقص الشعر لديه يوازي قص السوالف والحكايات، ولعل المهنة فرضت طبيعة السلوك على الحلاق.
فالرجل أو الزبون المتبروظ على كرسي الحلاقة، مقيداً إلى فوطة الحلاقة، لا يستطيع استعمال أي من يديه أو رجليه، ولا تحريك رأسه، إلا بأمر أو إذن من الحلاق، فلربما كانت الثرثرة أو القصص المثيرة من الحلاق هي التي تخفف من وطأة تلك الجلسة المرهقة، وتعوض عن الزنقة التي يقبع بها المحلوق، أقصد الزبون الجالس إلى كرسي الحلاقة الصارم.
فيما مضى، قبل أن يعم السندويش والمعلبات والثوم المقشر والكوسا المحفور لأجل المحشي والبقدونس المفروم، وغيرها من الخضار الجاهزة المرافقة لعصر السرعة، كان الزمن يسير بطيئاً، وكل ما هو بطيء لاحساب له ولا قيمة.
فالحلاق كان يمضي ساعات على رأس الزبون، تتخلل تلك الحلاقة مشاوير يقضيها الحلاق بين دكانه وبيته الذي غالباً ما يكون مجاوراً للدكان، أو أن يذهب إلى مسجد الحارة للصلاة، أو لقضاء حاجة فيزيولوجية، والزبون على كرسي الحلاقة في حالة انتظار، وقد يترك الحلاق رأس زبونه ليقوم بتمثيل القصة التي يحكيها، فالدكان تلك لم تكن تحوي الزبائن وحدهم وهم ينتظرون دورهم للحلاقة، بل إن رهطاً من أهل الحي يتواجدون لتمضية الوقت الذي لا قيمة له، والكل يشارك في قص السير والسوالف والحكايات التي كان قاسمها المشترك هو المنفخة والعنتريات.
في إحدى تلك الدكاكين، وهذه السالفة تعود إلى بدايات القرن المنصرم، وفي حي باب تدمر الشعبي حين كان حديد ابن أبو حديد يجلس إلى كرسي الحلاقة صامتاً، وكان أبوه أي أبو حديد يمضي وقته الفائض عند ذاك الحلاق، مستعرضاً قبضاويته على مسامع الحضور مستذكراً تاريخه الحافل بالبطولات، فذكر الرجال الخمسة الذين أرداهم قتلى في المعركة التي حصلت بين حارته وحارة الصفصافة، والرجال السبعة الذين خلص عليهم واحداً إثر واحد في معركة حيه مع حي باب الدريب، معترفاً بجرح بسيط أصابه من شبرية غادرة لم يتأثر بها، ثم عرج على وصف المعركة مع أهالي حي الحميدية عند مقبرة الكتيب، حيث أوقع بتسعة رجال إصابتهم بليغة مع ثلاثة قتلى.
ثم انتقل أبو حديد لوصف بعض المعارك التي قابل فيها بخنجره عسكر الفرنساوي المسلح بالبواريد، مع ذكر تفاصيل وعدد العساكر الفرنسيين الذين جندلهم بمفرده بين قتيل وجريح.
وهنا ضاق ابن حديد الذي كان يجلس إلى كرسي الحلاقة، ولم يعد يحتمل مراجل الأب، وهو يعرف هذا الأب كما يعرف البير وغطاه، فترجل عن كرسي الحلاقة واتجه إلى أبيه مباشرة قائلاً:
- أبي. قوم روح عالبيت، ثم أشار بيده إلى المقبرة المقابلة لدكان الحلاق، وتابع كلامه مع أبيه:
ليش ما بتقول كل هالأموات اللي في المقبرة، أنت اللي قتلتهم؟
أنهى حديد ابن أبو حديد كلامه مع أبيه، ثم رجع إلى كرسي الحلاق.